الأسعد الوسلاتي من "المايسترو" إلى "حرقة" مخرج حالم لا يتعب

بأسلوبه في الدمج بين التوثيق والدراما رسخ المخرج التونسي الأسعد الوسلاتي في عمله الرمضاني المتوج بلقب أفضل مسلسل “حرقة” رؤية جديدة في نقل “حُرقة” الواقع وآلام المهاجرين.
لم يكن مجرد ناقل لواقع اجتماعي إلى الجمهور، بل كان مبدعا في توظيف الدراما بصورة واقعية لنقل رحلة المهاجرين الهاربين من واقع مأساوي، بحثا عن أمل في حياة أفضل في أوروبا، بعد أن رموا أنفسهم في قارب بعرض البحر، تاركين وراءهم وجعا كبيرا وآلاما لا توصف ليصطدموا في ما بعد بواقع أكثر قسوة وغربة.
وعبر الاستعانة بمشاهد حقيقية من عائلات مهاجرين ممن دفنت أحلامهم في قاع البحر خلال رحلات الموت على قارب صغير، وثّق الوسلاتي صورة فريدة في نقل مآسي المهاجرين الذين خيروا المخاطرة بالموت على العيش في بلد يسوده الفقر والفساد والمحسوبية والنظرة الدونية للأمهات العازبات والتهميش.
عاد الوسلاتي في شهر رمضان هذا العام بعمله الثاني ضمن مشروعه الهادف إلى إخراج ما سمّاها بـ”ثلاثية اجتماعية” بعد مسلسل ”المايسترو“ الذي سلط فيه الضوء على ظاهرة “الأطفال القصر في الوحدات السجنية المختصة” أي ”الإصلاحيات“، والذي حقق نجاحا باهرا العام الماضي. والآن في ”حرقة“ الذي يسافر مع المهاجرين في قواربهم الصغيرة نحو أوروبا.
رحلة الموت
من الحلقة الأولى يشدّ المسلسل المشاهدين أولا من خلال الوعاء الفني الخارجي، والذي كان عنوانه “حرقة” وتعني ”الهجرة غير النظامية“ وما تشكله في المخيال الشعبي من آلام، لاسيما في تونس التي تشهد موجات هجرة متصاعدة. وثانيا من خلال الصورة الجديدة في صناعة أغلب مشاهد المسلسل في البحر، وكسر النمطية السائدة في المكان، ما أثار فضول الجمهور أكثر، وأيضا من خلال مستوى الموسيقى التصويرية الرفيع فكانت ترنيمة حزينة تتصاعد شيئا فشيئا كطبيعة المسلسل في حزنه وفي تشويقه ونسق تطور أحداثه المتسارع.
كما جلبت طريقة التصوير من موقع عال وبعيد للقارب باستخدام “الدرون” اهتمام المشاهدين، فضلا عن دقة اختيار الممثلين الذين أتقنوا أدوارهم حد التماهي وهنا يجمع نقاد سينمائيون على أن الممثلين ساهموا بشكل لافت في إنجاح المسلسل.
التكامل بين النص والصورة
ولد الوسلاتي عام 1979 في محافظة الكاف المعروفة بالفن والتي تضم مراكز عديدة للفنون الدرامية، ويتسم أهلها بالتعلق بالقصص والأساطير وفن الحكي. ومن هناك استلهم الوسلاتي شغفه ثم انطلق إلى مسرح الهواة، وأكمل دراسته الجامعية بالمعهد العالي للفنون السمعية والبصرية بمنوبة.
قدّم تجارب ثرية وعديدة في تونس وفي الخارج، وتشمل تجاربه تلك مسلسلات وأفلاما قصيرة في الجزائر والسعودية مع شبكة ”أم.بي.سي“، وهو يعمل حاليا على مشروع من إنتاج عالمي مع شركة ”جينوميديا“، كما سيتولى إخراج مشروع من سبع حلقات ضمن مشروع مختلف تشارك فيه حوالي 17 جنسية من شخصيات تقنية ونحو 8 جنسيات من الممثلين ما يعبد طريق النجومية أمام المخرج التونسي الشاب.
ومن خلال عمليهما المشتركين “المايسترو” و”حرقة” تظهر بصمة مميزة لكل من الوسلاتي وشريكه الكاتب عمادالدين الحكيم، تكشف عن تكامل ملحوظ بين قوة النص وقوة الإخراج وما يؤكده المخرج الوسلاتي بنفسه.
عن ذلك يقول الوسلاتي وفي حوار خاص بـ”العرب“ إن “تجربة العمل مع السيناريست الحكيم تعكس علاقة تفاهم وتقارب في الأفكار وطرح المواضيع بيني وبينه فعلاقتنا تقوم على صداقة وتقاسم للأعباء وتبنّ للمشروع بنفس الحب والشغف، هو شريكي في حلم نحن نتقاسم الشغف بنفس نوعية الأفلام والكتابات ونتقارب إنسانيا بطريقة مثالية ونتقاطع في هواجسنا ومشاغلنا الاجتماعية التي نريد التطرق إليها“.
ويضيف “حينما أرسم طريق الشخصيات والمعالجة الدرامية يكون النص الذي يكتبه الحكيم ملائما ومنسجما تماما مع طرحي فهو من كتاب السيناريو المثقفين، وعند إعداد العمل نتقاسم معا البحث، مثلا في ‘حرقة’ سافرت إلى سيسيليا الإيطالية وزرت مراكز إيواء للمهاجرين، وعماد من جهته قابل أسر مفقودين ومهاجرين في تونس وجمعنا معلومات ليكون العمل مزيجا بين الوثائقي والدرامي”.

مشروع الوسلاتي يهدف إلى تقديم ما سمّاها بـ"ثلاثية اجتماعية" بعد مسلسل "المايسترو" الذي سلط فيه الضوء على ظاهرة الأطفال القصر في الإصلاحيات، والذي حقق نجاحا باهرا العام الماضي. والآن في "حرقة" الذي يسافر مع المهاجرين في قواربهم الصغيرة نحو أوروبا
أما الحكيم فيقول للصحيفة “من الأشياء التي تميز الوسلاتي هي طريقة تعامله مع السيناريو، فهو يحاول الاقتراب قدر الإمكان من الشخصيات من خلال لقطات قريبة مسلطة على الشخصيات، لذلك فهو يحاول إظهار خلفيات كل الشخصيات والجوانب الإنسانية التي تخصها“. ويضيف “يحاول الوسلاتي أن يساهم بالأفكار والتصورات التي قد تسهم في إنجاح العمل، فإذا ما تأملنا المسلسل الأخير ‘حرقة’ سنلاحظ ذلك المزج بين التوثيقي والروائي صلب عمل واحد مما أكسب المسلسل خصوصية تميزه عن غيره“.
فكاميرا الوسلاتي، حسب الحكيم، تحاول تقديم المشهد من زوايا مختلفة وديكورات تنبض بالحياة. كما أنه حريص على اختيار الممثلين الذين يحملون قدرا من الواقعية حتى ينجح العمل في الوصول إلى قلوب الناس وتحريك مشاعرهم وجعلهم يفكرون، بالإضافة إلى محاولات الأسعد المستمرة في أن تكون أعماله منسجمة مع المعايير العالمية المعمول بها.
يؤكد الوسلاتي أن اختياره للممثلين في “حرقة” والذين يعدّ أغلبهم من نفس أسرة مسلسله السابق إنما يعكس الحلم المشترك الذي يتبناه معه مجموعة من الممثلين الذين يقاسمونه هذا الطموح. ويقول “من منطلق تجربتي المسرحية في مسرح الهواة في محافظة الكاف، أعتبر أن أي سيناريو ممتاز لا ينجح دون اختيار مناسب للممثلين، أنا أريد التعامل مع ممثلين يؤمنون بالمشروع وليس مع من يريد الظهور فقط“.
ويحاول الاستثمار في تجارب الممثلين في الحياة فهو لا يتوجه بالضرورة إلى الممثلين ذوي التكوين الأكاديمي المسرحي بل يركّز على حياتهم وأحاسيسهم الخاصة، لأن ذلك يدعم العمل ويساعده كمخرج في تأطيره وإدارته.
بالمقابل، سعى الوسلاتي إلى استجلاب ممثلين جدد، وهو يؤكد أن هذه الخطوة نابعة من رغبته في توسيع نطاق الحلم وتوسيع تبني المشروع فهو الباحث عن ممثلين يمنحون الوقت والروح والحب والشغف والانتماء للعمل.
حساسية وحرارة الملفات التي يتناولها الوسلاتي يكشفهما عمق التأثير الذي أحدثه المسلسل في وجدان المشاهدين الذين بكوا وتأثروا وتألموا لما وثقه خلال زياراته للمهاجرين واقترابه من تجارب أسر المفقودين وأصحاب القوارب ممن شقوا أمواج البحر حاملين المئات من الشباب.
وكان اعتماد المزج بين الوثائقي والروائي لعبة ذكية للغاية، حيث اعتمد الوسلاتي الكاميرا المتحركة والقرب من الشخصيات لتتناسب مع حساسية الموضوع الذي يتطلب طرحا قريبا للواقع يعرضه كما هو بلا تزيين أو تحريف وهنا تكمن قيمة البصمة الإبداعية لإضفاء الصبغة الحقيقية على العمل الدرامي. يقول عن ذلك “حرصنا على تناسب الديكور والتجميل والملابس مع الطرح إلى جانب الصور الحقيقية للمفقودين وعائلاتهم التي حركت أحاسيس المشاهدين وأوجعتهم. والناس أحسوا بالصدق في المشاهد وتفاعلوا معها، لقد تعاملت مع المشاهد كأنه شخصية وشريك في العمل“.
أبعاد سياسية واجتماعية
العمل يستهدف في مضمونه الثري لفت انتباه السلطات إلى أهم ملف حارق وهو ظاهرة الهجرة غير النظامية والبحث عن المهاجرين المفقودين، يوضح الوسلاتي ذلك بالقول “في ‘حرقة’ حاولنا تغيير أشياء. لا نهدف للحدّ من ظاهرة الهجرة غير النظامية، بقدر ما نسعى على الأقل إلى دفع الدولة لحماية أبنائها، فالهجرة كما كشف المسلسل ليست جنة“.
وفي إطار المحتوى لم يتطرق العمل إلى ظاهرة الهجرة غير النظامية فحسب، بل تناول خلفياتها من الفقر والمحسوبية والفساد، وكشف قضايا العنصرية في مراكز الإيواء في إيطاليا وفي أوروبا من خلال تسليط الضوء على ظواهر التشغيل الهش والاستغلال الاقتصادي للأفارقة، وقضايا الأمهات العازبات وحق التنقل الذي يضمنه الدستور التونسي ومعاهدات واتفاقيات حقوق الإنسان الدولية.
كما طرح المسلسل قضية الانتماء والهوية حيث ركز على إبراز العلاقة السببية بين الانتماء والهوية والهجرة في السؤال: لو كنا نشعر بالانتماء ولدينا نظرة أمل لماذا نفكر في الهجرة؟ وهي قضية مجتمعية جوهرية في تونس في الوقت الحالي أين صار الحلم بالهجرة يراود كثيرين من مختلف الفئات الثقافية والاجتماعية.
كاتبة السيناريو التونسية خليدة الشيباني تقول إن مسلسل ”حرقة” ليس عملا توثيقيا بالمعنى العلمي للكلمة، وتضيف ”هو عمل اجتماعي بامتياز يحاكي واقع فئة معينة، هي فئة المهمشين وسط مجتمع تآكلت نظمه الأخلاقية وسط هشاشة فكرية وسياسية لكل فئات المجتمع“. وتعتقد الشيباني أن السيناريست نجح بنسبة كبيرة في نقل واقع هذه الفئة الهاربة من واقع مرير أولا لأن المتفرج مستعد نفسيا للتفاعل مع مثل هذا الموضوع لأنه موضوع حيني، وثانيا لأن المخرج نجح في طرح الموضوع من خلال مجموعة ممثلين أبدعوا في تقمص أدوارهم حد التماهي.
أما الممثل محمد علي زڤرڤر الذي شارك الوسلاتي في مسلسلي ”المايسترو“ و”حرقة” فيصف الوسلاتي بأنه فنان هادئ في التصوير، يوصل المعلومة بكل سلاسة ويحب الممثلين الذين يعملون معه، ويضيف زڤرڤر ”لذلك نحب معه حلمه ونشاركه طموحه ونتمنى مواصلة العمل معه“. ووصف الممثل التونسي صعوبات التصوير في البحر ودور المخرج في تخفيف الإرهاق والتعب عن الجميع، وتشجيعه للممثلين وتحفيزهم على القيام بأداء ممتاز يليق بالمشاهد التونسي.
أخيرا إن الوسلاتي يحمل من البداية تجربة لافتة، فكثافة الإنتاج رافقته خلال دراسته السينمائية، حيث نالت أفلامه القصيرة جوائز عدة في مهرجانات هواة السينما، ليكون فيلم “الخزان” إنتاج المخرجة سلمى بكار انطلاقته المحترفة في عالم الفن السابع وتمكن هذا الفيلم برمزيته العميقة من الاستحواذ على تتويجات عدد كبير من المهرجانات الدولية بكل من فرنسا، إيطاليا، جينف، روتردام، سان فرنسيسكو، طهران، دبي وطنجة.
ولهذا كله فقد توقع الوسلاتي نجاح المسلسل، لكنه لم يكن يتخيل أن يصل نجاحه إلى هذا الحد، أو أن يتبناه الجمهور بهذه الطريقة، على حد وصفه. وحتى الوقت الراهن توج المسلسل بنحو 50 جائزة كما من المنتظر أن يعرض في منصات وقنوات أوروبية وعالمية.