العراق دولة مستوطنات تتحكم فيها الميليشيات والعشائر والأحزاب

يشجع الانفلات الأمني وضعف الدولة، منذ الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، واستشراء سلطة الميليشيات الموالية لإيران العشائر على الانخراط في مسلسل النزاع المستمر؛ حيث تشهد المدن العراقية مثل البصرة من حين إلى آخر نزاعات عشائرية غير مسبوقة. ويعزو مسؤولون سبب هذه النزاعات إلى وجود الكثير من الأسلحة لدى العشائر وعجز الحكومة عن السيطرة عليها ما حوّل البلاد إلى مدن رعب وساحات قتال.
بغداد - لعل من قبيل التهكم بالأوضاع المنفلتة في العراق والسخرية منها أن ينتشر، بنحو واسع، خبر يقول “بسبب المعارك المستمرة والشرسة بين عشائر في محافظة البصرة.. شيوخ العشائر يستدعون مواليد 1947 و1948 و1949 و1950 إلى الخدمة الإلزامية”، لكن ذلك ضحك كالبكاء.
واندلع الاثنين الماضي نزاع عشائري في قضاء سوق الشيوخ بمحافظة ذي قار بسبب قطعة أرض، سقط خلاله قتلى وجرحى على الرغم من وجود القوات الأمنية التي لم تتدخل لفض النزاع.
والواقع، إن النزاعات العشائرية لم تتوقف في العراق منذ الاحتلال سنة 2003 وتصاعدت حدّتها بصفة متسارعة في البصرة جنوبي العراق، فأصبحت وباء مرافقا لوباء كوفيد – 19 وأكثر فتكا منه، ودخلت البصرة العام الماضي في موجة عنف عشائري غير مسبوقة ليس مستبعدا أن تتكرر في أي لحظة، وسط عجز واضح من الأجهزة الأمنية التي لم تفلح في الحدّ منها. وهذا العنف، وإن يشهد هدوءا نسبيا في بعض الأوقات، إلا أنه سرعان ما يعود إلى الواجهة من جديد بنحو أعنف.
ضعف الدولة
غدت العشائر في ظل ضعف الدولة دولا قائمة بنفسها داخل الدولة لها أعلام وإعلام وناطق رسمي باسمها وسلاح وتدريب، كل شيخ منح نفسه لقب أمير وأحال هؤلاء الشيوخ العراق إلى دولة أمراء، والخشية أن يشيع لدينا مصطلح ملوك العشائر بدل المصطلح القديم (ملوك الطوائف).
ويعزو مسؤولون ووجهاء عشائريون أسباب هذه النزاعات إلى وجود الأسلحة بكثرة لدى العشائر، وعجز الحكومة عن السيطرة عليها، فقد استطاعت العشائر أن تستولي على أسلحة الجيش العراقي السابق التي تركها في معسكراته وفي الشوارع، عند غزو الولايات المتحدة وحلفائها للعراق، وما ظهر منها إلى الآن، أنواع من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، من رشاشات وقذائف (آر.بي.جي 7) وقذائف (هاون) وغيرها من الأسلحة، لكن كثيرين يؤكدون أن لدى العشائر أسلحة أثقل لم تستخدمها بعد، ويشكو المواطنون من تحول مدنهم إلى مدن رعب وساحات قتال، ويحمّلون الحكومات المحلية والحكومة المركزية المسؤولية في انفلات السلاح وعدم السيطرة عليه وحصره بيد الدولة.
والاثنين أيضا كشف قائد عمليات البصرة اللواء الركن علي الماجدي، في تصريح صحافي، عن تفعيل مذكرات إلقاء القبض (وفق المادة 406) للأطراف العشائرية المتنازعة بالتعاون مع الشرطة بهدف القضاء على النزاعات العشائرية المسلحة، متعهدا بأن يكون القانون هو السائد على الجميع، حسب قوله، وأعلن البدء بعمليات التفتيش والمداهمات والسيطرات المفاجئة وفق معلومات استخبارية من خلال خلية أمنية موسعة تجمع كل المعلومات عن المطلوبين.
وتتسبب النزاعات العشائرية، عادة، بسقوط العديد من القتلى والجرحى من العشائر، وهي تحول أحيانا دون قدرة القوات الأمنية على السيطرة عليها، وبالرغم من أن القوات الأمنية تعتقل عددا من أبناء تلك العشائر، في كل مرة، إلا أنها لم تستطع منع تلك النزاعات حتى الآن، وليس أكيدا أن يتمكن الماجدي من القضاء على هذه النزاعات، كما تعهد.
ناقشت أمر هذه النزاعات مع مسؤولين سابقين، اثنين منهم كانا وزيرين للداخلية، ومع باحثين ونشطاء سياسيين، فأجمعوا على أن الفلتان الأمني يشجع العشائر على النزاع لأتفه الأسباب، وعزوا ذلك إلى عدم سيطرة الدولة على القوات الأمنية نفسها التي تشهد نزاعا آخر بين الميليشيات وبينها، على الرغم من أن الميليشيات يفترض، وحسب القانون مدمجة بالقوات الأمنية وتخضع لأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، لكن العراقيين جميعا شهدوا مدى استهانة الميليشيات بالدولة ووضعها صور القائد العام للقوات المسلحة تحت الأقدام.
ورأى بعضهم أن المصالح هي التي تفجر هذه النزاعات، إذ تسعى كل عشيرة إلى زيادة حصصها من سرقات النفط وتهريبه، من دون الالتفات إلى مصالح الوطن أو الالتزام بضوابط دينية.
وكان قاسم سليماني الراعي الذي يضبط إيقاع تنافس تلك القوى، ولكن، بعد مقتله بضربة أميركية في 3 يناير من العام الماضي وتزامن ذلك مع الأزمة الاقتصادية أصبح التنافس شديدا بين تلك الفصائل خصوصا بعد انحسار الموارد المالية فتحولت المنافسة بينها إلى صراع على المؤسسات التي تدر ربحا أكثر، ومنها المنافذ الحدودية لغرض التهريب وخصوصا النفط من أجل التمويل الذي لم يعد يكفي بسبب ذهاب الحصة الأكبر إلى إيران، فضلا عن السرقات التي فاقت الحدود، لهذا تحولت المنافسة إلى نزاعات مسلحة للهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي، بعد تحجيم دور الحكومة فأصبح كل طرف يستعرض قوته ليثبت أنه الأقوى، في مسعى لإرضاء إيران لكي تختاره راعيا لمصالحها على حساب الوطن.
وكان رأي محمود ذياب الأحمد وزير الداخلية الأسبق، إذ يُرجع سبب النزاعات المسلحة إلى ضعف الدولة وعدم قدرتها على تطبيق القانون، وهو يعتقد أن الدولة لو تصرفت، ولو لمرة واحدة، بقوة القانون مع من يحمل السلاح لانتهت مثل هذه المظاهر من فورها.
ويورد مثالا على ذلك “عشيرتان تتقاتلان بسبب ألف دينار (أقل من دولار واحد) ويقتل عدد من الطرفين والدولة تتفرج”.
وأدى ضعف الدولة إلى كوارث اجتماعية وأخلاقية كثيرة نالت من النسيج المجتمعي العراقي وقيمه، فالسرقة من أموال الشعب أصبحت مرجلة وشجاعة.. السلوك المنحرف في الشارع لا رادع له.. زوجة تقتل زوجها.. زوج يحرق زوجته.. حالات الزنا بالمحارم.. وغيرها من السلوكيات المنحرفة.
إن ما يحدث في البصرة، اليوم، من نزاعات وفتن بين أهاليها وعشائرها، وانتقالها إلى محافظات جنوبية أخرى، ليس أكثر من حرب بالوكالة نيابة عن أحزاب السلطة وميليشيات الحشد الشعبي تحت إشراف ولاية الفقيه، ولا يجد أحد غرابة في التعبئة المسلحة، واسألوا المجلس الأعلى وفيلق بدر ودولة الموت الدموية المسماة دولة القانون، والأحزاب الموالية لإيران التي جنّدت بعض الشيوخ لدواع معروفة، في مقدمتها تأسيس مراكز نفوذ، ومنها أيضا تأمين الأصوات الانتخابية عن طريق شراء الذمم والتجنيد لصالح المخابرات الإيرانية، لذلك فإن ردع العشائر لن يكون في صالح تلك الأحزاب والميليشيات المرتبطة بأجندة الولي الفقيه.
الانتقام الإيراني

لقد انتقم الإيرانيون من البصرة، المدينة الباسلة، التي جرعت كبيرهم السم حتى مات كمدا فعاثوا في مدينة المدن، كما يسميها العراقيون، وارتكبوا ومازالوا انتهاكات لا حصر لها من قتل وتغييب وتسليب، إذ جردوا البصرة من جمالياتها الإنسانية المعروفة لدى العراقيين.
ويرى سمير الشيخلي وزير داخلية سابق أيضا أن أسباب الفوضى في العراق واستفحال بعض العشائر وجميع الميليشيات يعود إلى فشل النظام السياسي ومنظومته في إدارة البلاد، وانهيار القاعدة الصناعية ومنظومة الري والزراعة والمنظومة القيمية للمجتمع، والتعليم وانتشار الأمية، وضعف أداء مراكز الضبط الاجتماعي في البلاد، فضلا عن ظهور طبقة واسعة لها مصلحة ببقاء هذا الاختلال المجتمعي، وغياب الإرادة الوطنية وتغييبها في أي إجراء إصلاحي بالمجتمع، مع وجود دول إقليمية لها مصلحة ببقاء الوضع في العراق مضطربا.
هناك مقترحات عديدة للخروج بالبلاد مما تعانيه من فوضى وأزمات لعل أنضجها إقامة حوار مجتمعي عبر مؤتمر يعقد في كل محافظة يقوده منتفضو أكتوبر المستهدفون هم وحراكهم بهذه الفوضى، لتصفير مشكلات الحاضر ورسم شكل المجتمع على شتى الصعد ورسم صورة المستقبل، على أن يضم المؤتمر النخب والكفاءات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني كافة وكذلك رؤساء المحاكم وأجهزة الضبط الاجتماعي وكبار الضباط السابقين المشهود لهم بالخبرة والمهنية ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات وآخرين، لمناقشة مجموعة الأسباب السياسية والإدارية والتشريعية التي جعلت المجتمع في حالة من التوتر والتخلف، ودراسة طرق تصفير المشكلات وطرق تحقيق نهضة على شتى الصعد ويعدّ مؤتمر كل محافظة تقريرا بما تمخض عنه وينتخب عددا من أعضائه بين خمسة إلى سبعة أشخاص لحضور مؤتمر عام يعقد في بغداد.
ويتكون المؤتمر العام من مندوبي المحافظات الذين انتخبتهم محافظاتهم ولجنة تحضيرية وسكرتارية لإدارة المؤتمر تحدد موعد إقامة المؤتمر ومكان انعقاده، وتتسلم تقارير المحافظات لتعدّ تقريرا موحدا يعرض على المؤتمر العام الذي يعقد برعاية رئيس الجمهورية، ثم تجري بعد ذلك الانتخابات وتكون مسؤولية النواب المنتخبين من المحافظات تنفيذ مقررات مؤتمرات المحافظات، وبذلك سيكون واضحا لدى المواطن البرنامج الذي على مجلس النواب تنفيذه، ولهذا المقترح تفاصيل لا يستوعبها مقال في صحيفة.
لكن هذا سيكون حلا ميتافيزيقيا أمام فايروس التوطين السكاني الطائفي وتغيير الواقع الديموغرافي، لا يمكن تحقيقه إلا في ظل إرادة وطنية، لا إرادة تحكمها أجندة خارجية، وطبقة سياسية تسرق ما فوق الأرض وما تحتها.
إن جميع الأحزاب الموالية لطهران وميليشياتها، كما يرى السياسي والكاتب العراقي ضرغام الدباغ، تعمل لتحقيق إرادة أجنبية، وهذه الأحزاب، في الواقع، ضعيفة جدا، بدليل اعتمادها المطلق على القوى الأجنبية حتى بعد نحو 20 سنة من القتل والتهجير والتصفيات والهجوم الإعلامي لا تزال صفرا، إذن الإرادة الأجنبية هي الأساس، وهي لهذا متفقة من الإيرانيين اليوم على ما يدور في العراق، مع خلافات جزئية صغيرة، هنا وهناك، وهذه الخلافات البسيطة لا تضر اتفاقهم الأساسي بشأن العراق، وكما أن المعاداة السياسية حكمت الموقف، فإن معادلات سياسية ستأتي وتقرر زوال هذه الأحزاب، وهذا، بتقدير الدباغ، ليس ببعيد جدا، فالولايات المتحدة هي التي هندست هذا الموقف كله، وسلطة الولايات المتحدة في العالم تتضاءل اليوم، وسوف تتضاءل إلى درجة لا يمكنها الحفاظ على مواقعها الثانوية والشرق الأوسط موقع ثانوي، برغم أهميته، والولايات المتحدة الآن بصدد التنازل عن إسرائيل فما بالك بإيران وتوسعها في العراق؟ لكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح.
خلاصة القول: إن أخطر ما يعانيه العراق أنه تحكمه أحزاب طائفية تدّعي التدين، وهذه الأحزاب لا تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم وسرقة كل شيء تحت ستار الدين، وقد انتبه العراقيون إلى ذلك فخرجت تظاهراتهم بهتاف مبكر يقول “باسم الدين باكونا الحرامية”، أي باسم الدين سرقنا اللصوص، وذلك مصداق لما قاله الطبيب والمؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون “الجماعات المتدينة لا تشعر بتأنيب الضمير عندما ترتكب خطأ أخلاقيا أو قانونيا لأنها نشأت على مفهوم أن العبادة تمحو الذنوب”.
وذلك ما يحصل في العراق اليوم.