من الاحتجاجات الشعبية العراقية إلى المعارضة الوطنية

ثورة أكتوبر كشفت وأنهت "المُقدّس" الزائف وعرّت الأحزاب كمجاميع لا علاقة لها بالدين والمذهب ولا بالسياسة وإنما تدير عصابات للنهب والقتل هي الأخطر يتعرض لها العراق كما أسقطت مهابة طهران.
الأربعاء 2021/06/09
مواجهة نظام سياسي وأحزاب حاكمة زّيفت الهوية الديمقراطية

الغرض من هذه السطور ليس عرضا للفكر السياسي الديمقراطي والتطورات التي حصلت في دور المعارضات في النظام الديمقراطي وإشكالاتها الواقعية، فذلك مبحث نظري ليس مجاله هنا. لكن من المفيد الإشارة إلى أن واقع الحكم في العراق بعد العام 2003 استند إلى مشروعية صنعها الاحتلال لنظام ديمقراطي بمرجعية دستور مُعتل بخدمة رخيصة من أعوانه العراقيين وبمباركة من المرجعية الشيعية، هذه الحقيقة هي أحد العناصر الجوهرية للأزمة السياسية العراقية.

نظريا يعتقد حكام العراق اليوم من أحزاب الإسلام السياسي الشيعي أن أهم عناصر قوتهم واستمرارهم في السلطة استنادهم على الهوية الديمقراطية للنظام القائم كسلاح استراتيجي يواجهون به الثورة الشعبية إذا ما تطور وضعها من احتجاجات ومظاهرات إلى معارضة سياسية جدّية قد تهدّد النظام القائم، لكنه سلاح لم تنطل خدعته على العراقيين.

رغم استناد هذه الأحزاب على النظرية التوافقية المكوناتية التي لا جذور لها في العالم الديمقراطي، إنما هي “بدعة” لدكتاتورية الطائفة والاستئثار بالسلطة والانتقال بها إلى دولة الميليشيات، وهي أخطر مرحلة يمّر بها العراق اليوم، لا علاقة لها بما يسمّى التداول السلمي للسلطة الذي يعني بالنسبة لها تقاسمها بطرق مافيوية.

شكلت ثورة تشرين – أكتوبر 2019 خلاصة للرفض الشعبي العام ضد حكم الأحزاب وميليشياتها المسلحة منذ عام 2003. في المراحل الأولى من الاحتلال اتخذت طابعا مُسّلحا بُرّر طائفيا لبعض المقاومين من الشيعة، واعتبر تمرّدا إرهابيا لغيرهم، لأن الأحزاب الشيعية كانت شريكا وعونا خادما للاحتلال.

مبرّرات هذه الثورة لا تتعلق بمطالب خدمية، رغم أنها تشكل قضية جوهرية تتعلق بحياة الناس، إنما لمواجهة نظام سياسي وأحزاب حاكمة زّيفت عمليا الهوية الديمقراطية واحتالت عليها فاستخدمت الجزء المهمّ من آلياتها الانتخابية للحفاظ على سلطة بلا إنجاز، فيما تطبق عمليا مختلف فعاليات الاستبداد والقمع المسلح بأدوات القتل.

ثورة تشرين – أكتوبر 2019 شكلت خلاصة للرفض الشعبي العام ضد حكم الأحزاب وميليشياتها المسلحة منذ عام 2003

تاريخ ثورات الشعوب في العصر الراهن يقول إن موجات الهبّات العاطفية سرعان ما تتلاشى ويسهل قمعها وإخمادها واختراقها ثم تصفيتها إن لم تستند على مرتكزات نظرية وتنظيمية واضحة وبرامج سياسية مرحلية، شواهد ذلك في عالمنا العربي ما سمّي بالربيع العربي المُدجّن في الثورات السورية والليبية واليمنية التي تم اختراقها وتحويلها إلى حروب أهلية، لكن التجربة السودانية أعطت مثالا إيجابيا لثورة شعبية مُنظّمة.

أنجزت ثورة أكتوبر مرحلة مهمّة، رغم تكلفتها من دماء الشباب، حيث كشفت وأنهت “المُقدّس” الزائف، وعرّت الأحزاب على حقيقتها كمجاميع لا علاقة لها بالدين والمذهب ولا بالسياسة، إنما تدير مافيات للنهب والقتل هي الأخطر يتعرض لها شعب العراق، كما أسقطت مهابة طهران التي مررتها كورقة سياسية على عملائها حين مزقّت وداست صور رموزها في شوارع كربلاء والبصرة والناصرية.

تحاول أحزاب الحكم وموالوها ومرتزقتها من بعض مدعي التحليل والرأي السياسي، في قنوات “الاتحاد الإسلامي” أو القنوات الأخرى، إخافة الجمهور العراقي من مخاطر ضياع النظام السياسي لذلك مطلوب الحفاظ على العملية السياسية وهي لعبة غير مُتقنة الإخراج، فلن يكون تغيير هذا النظام أكثر جسامة بما حلّ بالعراق عام 2003 وبعده إذا ما تم على يد عراقيين شرفاء محبّين لوطنهم.

من هنا تصبح من أولى مهمات هذه الثورة الشعبية العراقية تصحيح مسار النظام القائم من خارجه، بعد استحالة الإصلاح السياسي من داخله، وتحول شعار الإصلاح إلى ورقة في المزايدات الانتخابية. ولكي لا تتعثر هذه الثورة الأصيلة أصبح من الضروري على نشطائها الأصلاء إتقان العمل السياسي المنظم عبر الالتزام الواضح بمشروع وطني شامل يزيل المشروعية الديمقراطية عن الأحزاب ويزيحها عن السلطة، بالوسائل السلمية حاليا، رغم خسائرها التكتيكية.

تمّر أحزاب السلطة الآن بأسوأ حالاتها منذ عام 2003، فقد احترقت جميع أوراقها، وأهمها استنادها على مرجعية النجف التي تعيش الآن وضعا حرجا بسبب دعمها لتلك الأحزاب وتشريعها الفتوى التي اُستغلت لبناء الميليشيات التي أعلنت بقوة عن ولائها لمرجعية قم وطهران والولي السياسي المذهبي خامنئي. ولكي تحافظ مرجعية السيستاني على مكانتها المعنوية عليها واجب الإعلان الجريء عن انتهاء غطاء الفتوى للميليشيات والتخلي عن أحزاب الفساد والقتل.

لم تعد هذه الأحزاب قادرة على تمرير شعارات مثل أن المعارضة الشعبية تهدف إلى إسقاط النظام الشيعي، التي سبق أن استفادت منها في السنوات الأخيرة، اليوم تسّوق شعار الحرب الشيعية – الشيعية بعد أن ثار أهل وسط وجنوبي العراق.

Thumbnail

مرحلة النهاية هي استخدام أقصى أساليب القمع الدموي المُنظم ضد الفعاليات الشعبية باستهداف الناشطين المتميّزين لإرهاب الآخرين. كانت تلك الأحزاب وميليشياتها تتوقع لجوء بعض المتظاهرين إلى السلاح للدفاع عن النفس، وهو متوفر بكثرة، لتصف المتظاهرين بالإرهاب والتبعية الخارجية، لكن صمود الثوار السلمي قد أفشل هذه اللعبة، يبقى الخيار الممكن الأفضل الاعتماد على المؤسسة الوطنية العسكرية كظهير للتغيير.

منطق وقائع التاريخ يقول أن تتحول الثورة الشعبية من دائرة الاحتجاجات والتظاهرات، التي أصبح من السهل على الأحزاب وميليشياتها قمعها، إلى العمل السياسي المنظم بجميع اشتراطاته التنظيمية والإعلامية داخليا وخارجيا، لتضغط على سلطة الأحزاب فعليا وتضعها في مأزق لكي تتخلى مكرهة عن السلطة.

من أجل الانتقال الصحيح والسليم إلى مرحلة المعارضة الوطنية، وقبل الدخول في اندفاعات فردية قد تكون مدفوعة بعواطف أفرزتها ثورة أكتوبر، ولكي لا يقع هذا الجسم الطري النقي بأمراض معارضات قبل عام 2003، أبرزها الارتماء في أحضان أجهزة المخابرات الخارجية، لا بدّ من توفر مستلزمات الحدود الدنيا للمشروع الوطني العراقي رغم صعوبات الظرف الجيوسياسية، وفق منطلقات وآليات من بينها:

أولا، صحيح أن هوية ثورة تشرين – أكتوبر العامة وطنية من خلال التظاهرات والاحتجاجات، لكن هناك رؤى مختلفة داخل بعضها تم اختراقها من قبل الأحزاب الحاكمة، والسبيل الوحيد للانتقال من عموميات الشعار الوطني إلى العمل السياسي المنظم يتطلب فرزا واضحا للتوجهات بابتعادها عن النزعات الدينية والمذهبية والقبلية والمحلية.

هل هي مجازفة ثورية صادمة لأحزاب السلطة أن تتحول التظاهرات والاحتجاجات إلى معارضة سياسية منظمة؟

ثانيا، وضوح هدف المعارضة في إسقاط منظومة الحكم الحالية التي ارتبطت بالفساد والقتل بأسلوب التغيير السياسي المُنظّم وفق برنامج تفصيلي، وقيام نظام عراقي بديل يستند على المواطنة والمساواة ونبذ الطائفية ووحدة أرض العراق وعروبته.

ثالثا، تقديم رؤى سياسية واضحة معزّزة بالوقائع بعدم صلة النظام القائم بالديمقراطية الحقيقية التي احتالت على الديمقراطية باستخدام آلياتها للحفاظ على السلطة. المواطنة التي هي قلب الديمقراطية غائبة، لا حرية ولا رأي آخر ولا حقوق للإنسان، الحقيقة تقول إنه نظام الاستبداد الطائفي.

رابعا، المحافظة على هوية المعارضة الوطنية وعدم ارتباطها بالأجندات الإقليمية والدولية. وعدم التورّط في لعبة التوازنات الدولية والإقليمية مثلما وقعت معارضات سوريا وليبيا واليمن، والأخطر دخول إسرائيل كطرف مهمّ في تلك التوازنات.

خامسا، أهمية بناء الجسم التنظيمي السليم للمعارضة الوطنية يتطلب الابتعاد عن الفردية والاستئثار و”الشو” الإعلامي والتركيز على العمل الجماعي بلمّ شمل غالبية الكفاءات الهائلة من عراقيي المنفى، إضافة إلى الداخل حيث يشكل الأساس وقاعدة العمل المعارضي.

هل هي مجازفة ثورية صادمة لأحزاب السلطة أن تتحول التظاهرات والاحتجاجات إلى معارضة سياسية منظمة؟

قد يكون مثل هذا التطور، إذا ما حصل، صادما للوهلة الأولى، لكن هذه الأحزاب تعرف هذه الحقيقة، فهي وليدة من رحم المعارضة للنظام السابق، سرقت من غالبية المعارضين هذه الوصفة فاقتصرتها على ما أسمته “مظلومية الشيعة” التي انتهى مفعولها منذ وصول جيش الاحتلال الأميركي إلى الأراضي العراقية، ثم تسليم الحاكم بول بريمر السلطة إلى مجموعة مختارة بدقة من سقط المتاع لكي يصفها في ما بعد بأرذل الأوصاف.

ألا توجد المبررات الموضوعية لكي تتحول هذه الهبة الشعبية ضد الجور والظلم والسرقات والاستبداد والقتل إلى معارضة حقيقية وليست معارضات المقاهي ودوائر المخابرات، تضم العراقيين من النخب الفكرية والسياسية والثقافية والإعلامية في الداخل والخارج، وهم بالألوف، ليتحولوا إلى قوة سياسية للتغيير؟

9