الغياب العربي في العراق

لا يعتب العراقيون على الإدارات الأميركية الديمقراطية والجمهورية على احتضانها لكبار زعماء المعارضة العراقية السابقة الذين سلمتهم السلطة بعد غزوها، وذلك لأن لها مصالحها الاستراتيجية وأهدافها الخاصة التي أرادت تحقيقها، وأولها محو الدولة العراقية وشرذمة شعبها، لا لإفقارها، وحدها، وإغراقها في الفوضى والفساد، بل لخبط مياه المنطقة في ما أسمته بالفوضى الخلاقة التي ثبت أنها لا خلاقة ولا يحزنون.
كما أنهم لا يعتبون على الإيرانيين الذين كانوا، منذ قرون عديدة، يحلمون ويتآمرون ويحاربون من أجل احتلاله فيفشلون ويخرجون منه بذلة وهوان، حتى جاءهم الأميركيون فأعطوهم العراق دون قتال.
ولكنهم يعتبون كثيرا، وشديدا، على أشقاء العراق العرب الذين ارتكبوا بدل الخطأ الواحد ثلاثة أخطاء بحق شقيقهم العراق وبحق حكوماتهم وشعوبهم أيضا وهم يعلمون أو لا يعلمون.
الخطأ الأول هو أن خلافهم مع صدام حسين، في أعقاب غزوه للكويت، أغمض أبصارهم ودفعهم إلى الرغبة في إسقاطه بأي سبيل وبأية صيغة، حتى لو أدّى ذلك إلى دمار الوطن كله، وقتل عشرات الآلاف من أبنائه، وتهجير الملايين، وإفقار من يتبقى منهم، دون أن ينتبهوا ويتفهّموا الدوافع الأميركية والإيرانية لتبني أولئك المعارضين العراقيين، والهيمنة على مؤتمراتهم، والتحكم بمشاريعهم ومخططاتهم لعراق ما بعد صدام حسين، فسكتوا، وهم يرون ويسمعون ما يُخبأ لشقيقهم العراق، ولم يفعلوا شيئا لمنع تسليمه لمجموعة من المزورين والكذابين والمختلسين، خصوصا أولئك الذين ارتضوا أن يتوكلوا عن إيران وأميركا في العبث بوطنهم وأهلهم، ولا يخافون ولا يستحون.
والخطأ الثاني أنهم احتضنوا، بلا حساب ولا كتاب، معارضين عراقيين تأكد لهم من استضافاتهم، أوائل التسعينات، في الرياض ولندن وبيروت ودمشق وعمان، أن أغلبهم، وليس كلهم، ليسوا وطنيين، ولا صادقين في معارضتهم، وشرفاء ولا نبلاء. وأنهم لا يريدون، فقط، تغيير نظام حكم يعتقدون بأنه أضر بوطنهم وأهلهم، وإعادة الحياة لدولة العراق الموحدة الآمنة المزدهرة التي توفر لأهلها العدالة والمساواة والأمن والاستقرار، بل إن كل ما يحلمون به هو وراثة نظام صدام حسين واحتلال قصوره وسرقة أموال الدولة والمتاجرة بكرامتها وهيبتها وسيدتها، وأنهم موافقون ومتضامنون مع الإيرانيين والأميركيين على تمزيق وحدته وتهشيم مؤسساته وإلغاء جيشه وسرقة خيراته وتحويله إلى دولة فاشلة تحكمها المافيات والعصابات والميليشيات، ولا تقوم له قائمة عشرات قادمة من السنين.
أما الخطأ الثالث فهو أنهم، حتى بعد الخراب الذي أصاب شقيقهم العراق، ما زالوا يتبنّوْن ويدعمون ويموّلون ويُلمعون نفس الشحادين المختلسين الكذابين المزورين تجار المبادئ والشعارات.
وبعد ثماني عشرة سنة من الفوضى والفشل ما زالوا إما غير مكترثين بما يجري في العراق، وإما مصرين على عرقلة عودته لعافيته وقوته ووحدة أرضه وشعبه، حتى بعد أن ثبت لهم أن الذين تحالفوا معهم بالأمس، وما زالوا يتحالفون معهم اليوم، هم سبب ما يكنه الشعب العراقي لهم من بغض وريبة وشك.
ونحن على أبواب انتخابات عراقية جديدة، قد تجرى في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، وقد تؤجل أو تلغى، ما زال أشقاؤنا العرب يجلسون على التل، ويتفرجون، تاركين الحل والربط للنظام الإيراني الذي حول العراق إلى قاعدة تنطلق منها شرورُه إلى دول الجوار.
فكأنهم غير عازمين على مراجعة حساباتهم، وإدراك المتغيرات المهمة العميقة في المجتمع العراقي التي قد تُغير الواقع في العراق والمنطقة نحو الأمن والاستقرار والسلام والرخاء، أو نحو المزيد من الدم والدموع وخراب البيوت.
والظاهر أنهم لم يتبيَّنوا، حتى الآن، ذلك الدم الجديد الذي بدأ يتدفق في الجسد العراقي، منذ تشرين الأول/أكتوبر من عام 2019، والذي يتأكد، يوما بعد آخر، أنه يتوسع، ويكاد يصبح الأقوى والأعمق والأكثر وطنية، والأشد عزما وثباتا ونزاهة وإصرارا على التغيير، وأن الغد، مهما طال موعده، ومهما كثرت معوقاته، أت لا محالة، وأن أصحاب السلطة فيه هم أبناءُ هذا الجيل الجديد المتنور المتحضر المتحرر من الخرافة والفكر الظلامي المتخلف، والمُبرأ من العمالة والخيانة والسمسرة وفساد الأخلاق والسلوك.
فأما حان الوقت لأشقائنا العرب، إذن، أن يتوقفوا عن المراهنة على خيولهم القديمة، وينحازوا إلى الجماهير الشجاعة الصامدة المصرة على التغيير، واستعادة الوطن من سراقه أجمعين؟
وبمناسبة الحديث عن الانتخابات العراقية القادمة، هل يمكن أن يخبرنا أيّ من أشقائنا عرب الدولارات والريالات والدراهم ماذا يريدون من العراق، بل ماذا يريدون للعراق بسياساتهم تلك، وعبثهم ذاك؟
هل يريدون أن يستمر الاختلاس وتزوير الشهادات وتلفيق التهم والملفات وحوار المفخخات؟
وهل هناك من يستطيع منهم أن يخبرنا بما جنوا من حكم حلفائهم في مجلس الحكم سيء الصيت، وفي أيام الرئيس المغترب غازي الياور، والرئيس الراحل مام جلال، وبماذا نفعهم أو سينفعهم أياد علاوي وخميس الخنجر وصالح المطلق وسليم الجبوري وأسامة النجيفي ومحمد الحلبوسي؟
بصراحة، إن أشقاءنا العرب، حكومات وشعوبا، يتحملون القسط الأكبر من المسؤولية عما حدث أمس، وما يحدث اليوم، وما سيحدث غدا في العراق.