فن الشارع ينقذ المطابع القديمة ويوقد شعلتها من جديد

تراجع قطاع الطباعة بشكل لافت في ظل الثورة الرقمية الكبيرة، ما دفع العديد من المطابع التي كانت تنتج الآلاف من الكتب والملصقات الفنية والإعلانية والصحف وغيرها إلى الإغلاق. فهذا القطاع يختزن تراثا بشريا هاما يواجه الزوال في ظل الانتشار المتسارع لوسائل التواصل الحديثة والتكنولوجيات الرقمية وعالم الشاشات الصغيرة والكبيرة. ولكن تجربة فريدة من نوعها تدمج الطباعة الكلاسيكية مع فن الشارع قد تكون الحل في استمرار المطابع القديمة بروح جديدة.
كالي (كولومبيا) - كانت مطبعة “لا لينترنا” (المصباح) الواقعة في قلب حي كالي في كولومبيا في طور الاضمحلال البطيء، إذ أن أجهزتها القديمة لم تعد تُعتبَر صالحة إلا للخردة في العصر الرقمي، إلى أن أعاد مصممو الغرافيك وفنانو الشارع إحياء هذه المؤسسة التي تشكّل منارة في مجال الطباعة التقليدية.
فكما مصباح علاءالدين في حكاية “ألف ليلة وليلة”، ثمة “جانب سحري” في “لا لينترنا” كونها “عانت أزمات عدة، لكنها كانت تتمكن دائماً من التأقلم”، على ما يتذكر رئيس الطبّاعين أولميدو فرانكو البالغ 62 عاماً.
ولادة جديدة
يدير فرانكو مع صديقيه خايمي غارسيا (56 عاماً) وهيكتور أوتالفارو (53 عاماً) هذه المطبعة الواقعة بين المنازل الملونة والنباتات الاستوائية في منطقة سان أنطونيو في كالي جنوب غرب كولومبيا.
تأسست المطبعة قرابة العام 1930 بهدف طباعة إحدى الصحف، لكنها راحت بعد ذلك تُنتج كل أنواع الملصقات للمسارح وحفلات إلتون جون و”ميتاليكا” و”غانز أند روزس” في تسعينات القرن العشرين، ولأسماء كبيرة في رقص السالسا كيوري بوينافانتورا وروبن بليدس، إضافة إلى مناشير نقابية وكتب أغنيات وحتى كتب الأبراج.
ووسط ضجيج المطابع السوداء التي يفتخر بها وتبدو وكأنها قطع في متحف، يذكّر أولميدو في مقابلة معه بأن “كل شيء كان يُطبع على هذه الآلات، ومن أبرزها ‘ريلاينس’ عام 1890 التي كانت تُصنع في نيويورك، و’مارينوني’ الفرنسية عام 1870”.
مع ظهور الطباعة الرقمية، ثم منع إلصاق الإعلانات في الشوارع منذ عام 2006، تراجعت أعمال “لا لينترنا” إلى حافة الإفلاس. ويروي أولميدو أن “يابانيين أرادوا شراء الآلات. لكن تكلفة النقل كانت أكثر من قيمتها”.
لكن المطبعة القديمة لم تطبع مع ذلك كلمتها الأخيرة. ففي العام 2017، قصدها المصممان باتريسيا برادو وفابيان فيّا من أستوديو “تيناريو” لطبع ملصق لمهرجان وقررا العمل من أجل عدم انطفاء “لا لينترنا”.
إنقاذ "لا لينترنا" كان عبر إحضار فناني الغرافيك المعاصرين إليها لطباعة أعمالهم التي تباع لمحبي الفن في متجر محاذ للمطبعة وتلقى رواجا هاما
تفاوض أولميدو وهيكتور وخايمي مع المالك الذي منحهم الآلات كتعويض عن صرفهم وعن رواتبهم غير المدفوعة. في العام التالي بات العمال الثلاثة سادة المكان وانضمت إليهم زوجاتهم، واليوم ينقلون خبرتهم إلى أبنائهم وأحفادهم.
أما المصممان فيتكفلان بإحضار فناني الغرافيك المعاصرين إلى “لا لينترنا” لطباعة أعمالهم التي تباع في المتجر الجديد المجاور للمطبعة.
بعد طباعة الصحف والإعلانات تستمر شعلة “لا لينترنا” متقدة اليوم بفضل الفن من خلال “اندماج عالمين”، على ما تقول باتريسيا البالغة 32 عاماً.
وتضيف “إنها بمثابة ولادة جديدة وإعطاء معنى جديد للمهنة من خلال استخدام ما هو موجود أصلاً، أي مهارات هذا التقليد الحرفي وأدواته، معطوفاً على معارف الفنانين والمصممين والرسامين”.
يأتي المصممون إلى المطبعة ليكتشفوا ويتعلموا من أولميدو وهيكتور وخايمي سحر آلات الطباعة القديمة وأسرارها، من الأحرف المصنوعة من الرصاص إلى طريقة عمل طبقات الحبر وغيرها.
وتلاحظ فنانة الشارع ليلي كوكا أن “لا لينترنا” التي يتابعها الآلاف من المعجبين على الشبكات الاجتماعية أصبحت “مرجعاً لدى العاملين في مجال الفنون البصرية”. وتمكنت هذه الرسامة البالغة 33 عاماً أخيرا من الإقامة أسبوعين هناك خلال شهر مارس بعد تأجيل رحلتها بسبب كوفيد – 19.
تراث تتناقله الأجيال
وجه الوباء ضربة أخرى للمطبعة التي أغلقت لمدة أربعة أشهر العام الماضي خلال الإقفال العام الهادف إلى احتواء الوباء، لكنها سرعان ما عادت تعمل كخلية نحل.
وتؤكد ليلي أن “هذا المكان صامد رغم تغير الأزمنة”، مبدية سعادتها بـ”التعلم من الخطأ”، إذ اكتشفت أن نتيجة ما يخرج من آلات الطباعة مختلفة تماماً عما ترسمه على الأقمشة أو الجدران.
وجاء فنانو شارع آخرون مثل تونرا لتعلّم أسرار طباعة الأعمال المصممة في الأصل للشارع.
ويُعِد تونرا في “لا لينترنا” لمعرض “ميمورياس ميموار” المقررة إقامته في يونيو في “أييروكروم”، وهو مركز ثقافة الهيب هوب في ضواحي تولوز جنوب غرب فرنسا.
المطبعة عانت من العديد من الأزمات وتمكنت دائما من التأقلم، وأعمالها أصبحت مرجعا للعديد من الفنانين
ويقول هذا الرسام الجداري البالغ 31 عاماً الذي يستوحي أعماله من سكان كاليماس الأصليين المستقرين منذ القرن السادس في ما يعرف باسم فايي دل كاوكا “ما الذي يمكن أن تطلبه أكثر من هذا المكان الذي يشكّل ذكرى حية؟”.
من مقوسات ما قبل كولومبوس إلى الرسوم الحديثة، مروراً بالإعلانات الشهيرة في خمسينات القرن العشرين، أنتجت “لا لينترنا” ملصقات كثيرة يزيّن عدد منها جدرانها حتى سقف الزنك.
وهي لا تزال تتألق. فالطبّاعون والمصممون يعملون على مشروع جديد هو عبارة عن مدرسة لتعليم فنون الغرافيك بالتعاون مع وزارة الثقافة.
ويوضح أولميدو الذي يحرص على “ترك إرث” من خلال تمرير الشعلة إلى “جيل الكمبيوتر” أن المدرسة ستعلّم “الطباعة، والطباعة بالشاشة الحريرية وكل ما يتعلق بالفنون القديمة”.