الإيمراغن.. موريتانيون يفضلون المحيط على الصحراء

عكس الموريتانيين الذين يعيشون في المدن والصحراء بحثا عن الكلأ والماء، يعيش أفراد أقلية الإيمراغن على سواحل المحيط الأطلسي معتمدين في حياتهم على البحر وما يجود به عليهم، حتى لقّبوا برجال البحر، وهم لا يعتمدون إلا على القوارب والوسائل التقليدية لصيد السمك الذي يعتمدونه غذاء ودواء.
نواكشوط – لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف ويلقبون برجال البحر، يمارسون الصيد بوسائل بدائية ويتمسكون بأسلوب حياتهم التقليدي، رغم أن الشباب بدأ يتجه إلى الصيد المعاصر وحياة المدينة.
الإيمراغن صيادون يعيشون بالقرب من شاطئ المحيط الأطلسي شمال غربي موريتانيا، يتميزون عن الموريتانيين بهذه العلاقة العميقة مع البحر فيما ظلت القاعدة أن يتنقل الموريتاني عبر الصحراء مُتتبعا المراعي ومنابع الماء.
ويعرف الرجل فيهم باسم “آمريغ” والمرأة باسم “تامرغيت”، ولهم طقوسهم الخاصة في الصيد وعاداتهم التي يصرون عليها ويعتبرون أنها تجلب لهم الحظ في حياتهم اليومية.
ويمتلك صيادو المنطقة خبرة واسعة في رصد الأسماك، فعند ملاحظة أي سرب يقترب من الشاطئ يحاصره الصيادون بشباكهم التقليدية.
وتتولى النساء معالجة الأسماك وتجفيفها وتسويق ما فاض عن حاجتهم إلى أسواق نواكشوط أو نواذيبو الساحليتين من أجل الحصول على أموال لشراء بعض الأغراض.
قرى الإيمراغن تمتد على طول محمية "حوض آرغين" المصنفة ضمن مواقع التراث العالمي
ويقول عالي ولد محمد (من الإيمراغن) “نحن متمسكون بعاداتنا وسعداء بنمط عيشنا، البحر جزء من حياتنا، والأسماك التي نصطادها مصدر غذائنا ودوائنا، والفائض عن الحاجة نقوم ببيعه في المدن لشراء بعض الأغراض الأخرى”.
وتمتد قرى الإيمراغن التي لا تتجاوز 11 قرية على مسافة 200 كيلومتر على طول محمية حوض آرغين (شمال غرب موريتانيا) والتي صنفتها منظمة اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي.
وجرت العادة أن يتم إخلاء محمية كهذه من السكان، إلا أن موريتانيا تعتبر الإيمراغن جزءا من الوسط الطبيعي، ولذا فهم وحدهم المسموح لهم باستغلال الثروة السمكية في منطقة الحوض.
وتمنع النصوص المتعلقة بمحمية حوض آرغين أن تصطاد القوارب ذات المحركات في المنطقة، وهذا ما يعزز حظوظ الصيادين التقليديين، إلا أن ضعف وسائل الحراسة جعل مناطق الحوض هدفا سهلا أمام الصيادين الأجانب.
ويقول أحد الصيادين إنهم “كانوا يبلغون السلطات بوجود صيادين أجانب، وحدث مرة أن ساعدناها في احتجاز قارب صيد سنغالي أفرجت عنه في ما بعد”.
ويعتمد صيادو الإيمراغن (الكلمة بربرية ومعناها الصيادون ومفردها الآمريغ) في صيدهم على قوارب تقليدية يصنعونها بأنفسهم، ويرفضون حتى الآن الاستعانة بالزوارق الحديثة التي لها محركات تعمل بالوقود.
ويعتقدون أن سفن الصيد الكبيرة تستنزف الثروة السمكية وتتسبب في تناقص أعداد الأسماك.
وتتم عمليات الصيد لدى الإيمراغن على شكل احتفالات حيث ينزل الرجال إلى البحر جماعات وقد ربطوا شباكهم إلى المناكب ويرددون أغاني تمجد سمكة الدلفين صديقة الصياد، ثم تبدأ عملية “التشييلة” وهي نداء استغاثة بالدلفين وإشعار له أن الصيادين في حاجة إليه. وتتلخص العملية في ضرب الماء بالعصي وإصدار أصوات مبهمة.
وقال الصياد عبدي “ما إن يسمعنا ‘جانه’ (الاسم الذي يطلقونه على الدلفين) حتى يطل بوجهه ويبدأ في مطاردة الأسماك باتجاهنا”. وبمجرد وجود الأسماك في منطقة الشباك يحكم الصيادون حصارا حولها بتشكيل دائرة ترغمها على الوقوع. ثم تبدأ معركة اشتباك بالأيدي يتم خلالها تكسير رؤوس الأسماك لئلا تتمكن من الهرب، فضلاً عن استجابة معتقد راسخ بأن إسالة دم السمكة في البحر يخصبه.
رحلة صيد قد تدوم يوما كاملاً يعود بعدها الرجال إلى الشاطئ لتتولى النساء تشريح الأسماك وتجفيفها واستخراج الدهون منها إضافة إلى عمليات التسويق.
ويصنع صيادو الإيمراغن قواربهم من ألواح خشبية تُنحت من جذوع الشجر وتدهن بزيت السمك وتجفف عدة أيام، ثم يتم شدها إلى بعضها البعض بمسامير يجلبونها من العاصمة نواكشوط أو مدينة نواذيبو.
ويصنع هؤلاء الصيادون عدة أنوع من القوارب يختلف حجمها باختلاف استخدامها، إذ توجد قوارب بحجم صغير يبلغ طولها 4 أمتار وتستخدم للصيد على الشاطئ، فيما توجد قوارب أكبر حجما بطول 9 أمتار وهي خاصة بالصيد في عرض البحر.

ويقول عالي ولد محمد “يتولى صياد الإيمراغن صنع القارب الذي يصطاد به بنفسه بمساعدة بعض الصيادين المختصين”.
ويضيف “نستخدم فقط القوارب التقليدية التي نقوم بتصنيعها، إنها قوية، ولا مكان للقوارب الحديثة في منطقتنا”.
ويحافظ الإيمراغن على نمط حياتهم التقليدي، ويعيشون في أكواخ قرب الشاطئ يتم بناؤها من الأعشاب وأغصان الأشجار.
ويتغذون على ما تصطاده شباكهم من أسماك، ويحافظون على عادات الصيد التقليدي التي ورثوها عن أجدادهم حتى أنهم لا يشجعون تعليم أطفالهم مخافة أن يتخلوا عن مهنة الصيد التي يقدسونها إلى درجة أنهم لا يزوجون بناتهم إلا للصيادين.
ويقول الباحث ولد سيدي أعمر إن الايمراغن “من السمك تغذوا ومنه تعالجوا، وهذا الغذاء وهذا العلاج مناطهما تجربتهم في صناعة الأغذية من السمك وعلاج مختلف الأمراض به”.
ويقول أحد شيوخ الإيمراغن إن هناك رجالا ونساء من حكمائهم عرفوا بمهارتهم في العلاج بالسمك وزيوته، ويعتمدون أساسا في العلاج على سمكة كبيرة يسمونها “أزول”، حيث يسقى المريض في بطنه أو صدره كميات من الدهن المستخرج منها، ويأكل شرائح من لحمها. وتختلف طريقة معالجة السمك المخصص للعلاج وإعداده عن معالجة سمك الغذاء أو البيع، إذ يتم تجفيفه دون أن يتعرض للشمس أو النسيم.
وتستخرج الزيوت المخصصة للتدواي من رأس السمكة، كما أن للسمكة المخصصة للعلاج مواصفات يراعيها الصيادون في البحر، وعندما يتم اصطيادها يحتفظ بها بعيدا عن الأسماك الأخرى، كما يستخدمون لحمها وزيتها في علاج أمراض كثيرة منها الربو والسكري وارتفاع ضغط الدم ونزلات البرد وأمراض الكبد والغدة الدرقية.
ورغم تمسك غالبية الإيمراغن بمهنة صيد الأسماك، إلا أن أعداد الصيادين في هذه القرى بدأت في التراجع خلال السنوات الأخيرة، إذ أن بعض الشباب باتوا يفضلون العيش في المدن بدل العيش على الشواطئ وامتهان صيد الأسماك.
ومن بقي منهم يختار وسائل الصيد الحديثة رغم أن الإيمراغن يعتبرون أن سفن الصيد الصناعي “لعنة حلت بالبحر وأدت إلى إفقاره، ونحن نخاف أن يجف بسببها”، كما يقول الصيادون من كبار العمر.
وتحرص السلطات على استمرار محافظة الإيمراغن على عاداتهم وأساليبهم في الصيد المُتّبعة منذ القِدم.
وتعتبر شواطئ موريتانيا المطلة على المحيط الأطلسي على طول 755 كيلومترا واحدة من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك والأنواع البحرية الأخرى.
ويصف سكان محليون هذه الثروة السمكية الغنية والمتنوعة بـ”بترول موريتانيا”.
وفي يونيو 2020 صنفت المنظمة العالمية للأغذية والزراعة “فاو” موريتانيا ثاني أكبر بلد أفريقي في إنتاج الأسماك بعد المغرب وفي المرتبة العشرين عالميا.


