رسام أم صانع لوحة؟

كانت ستينات القرن العشرين من وجهة نظر بعض نقاد الفن أسوأ مرحلة مرّ بها الفن عبر عصوره. لقد سمحت تلك السنوات لمَن لا يعرف الرسم أن يزاحم الرسامين الحقيقيين، بل وأن يقف في مقدمة صفوفهم فلا تُكتب صفحة في تاريخ تلك المرحلة من غير أن يتم ذكره من جهة كونه فاتحا ومجدّدا.
وها هي المتاحف تمتلئ بأعمال مَن لو عادوا إلى مقاعد الدرس وتم امتحانهم في رسم منظر طبيعي أو صورة لإنسان لما اجتازوا ذلك الامتحان.
عددهم لا يُحصى، ولكن يقف في مقدّمتهم الفرنسي إيف كلاين والإيطالي بييرو مانزوني والألماني جوزيف بويز. كانوا أساسيين وعلامات تحوّل في طرق الرؤية والتفكير في الفن، ولكنهم لم يكونوا رسامين.
أما الفنان الإيطالي لوتشيو فونتانا فإنه لم يكتسب شهرته، إلاّ لأنه شقّ سطح اللوحة ذي اللون الواحد. لا يزال تأثير أولئك الفنانين قائما حتى اللحظة.
ينظر الكثيرون إلى أزرق كلاين بإجلال ويفتحون أفواههم دهشة إذا ما رأوا واحدة من لوحات مانزوني البيضاء، ويطيرون فرحا إذا ما وقفوا أمام الشق الذي أحدثه فونتانا في سطوح “لوحاته”. أما بدلة بويز الرمادية فإنها تعلّق في صناديق زجاجية لا يخترقها الرصاص.
كل هذا حدث في غفلة من تاريخ الفن ليعلن موت الحداثة وبدء عصر جديد من عصور الفن. كان السائد يومها أن ما يجري إنما يشير إلى نهاية عصور الرسم.
وبالرغم من عودة الرسم وبقوة لأنه أصلا لم يمت، إنما أريد له أن يتعرّض لصدمة تهزّه وتغيّره وتعيده إلى مرجعيته كونه بحثا بصريا في الوجود الإنساني وليس مجرّد لعب تزييني، فإن مَن أسميهم بصانعي اللوحات لا يزالون يحصدون شهرة ويقفون إلى جانب الرسامين الحقيقيين.
لقد خلطت الستينات بين الرسام وصانع اللوحة الذي وإن كان لا يمتلك موهبة الرسام في التمكن من الحرفة، غير أنه يتفوّق عليه أحيانا في الخيال.
من حيث المبدأ فإن الحرفة ضرورية، غير أنها وحدها لا تصنع رساما. ولكن هل يصنع إهمالها رساما؟ ذلك أمر عسير استطاعت ستينات القرن العشرين أن تيسّره.