الانقسام والفوضى ودمار الاقتصاد ثمار عشرية الثورة الليبية

الثورة الليبية، التي انتقلت عدواها من تونس ومصر في مطلع 2011، تشكل قصة شديدة التعقيد، فقد تضمنت انتفاضات مختلفة ارتبطت بالعديد من المجالات والأسباب الجغرافية والعقائدية والقبلية انتهت إلى انقسام سياسي حاد بين سلطتين واحدة في الشرق والأخرى في الغرب، غذته التدخلات الخارجية والتي ساهمت في انتشار السلاح بين الميليشيات وتسببت في دمار اقتصادي سيحتاج الليبيون إلى سنوات لإعادة بنائه مرة أخرى.
طرابلس- تتباين المواقف والانطباعات بشأن الحكم على الثورات العربية بعد اندلاعها قبل عشر سنوات، بالنظر إلى التقدم الذي أحرزته سياسيا واقتصاديا والتغييرات التي سعى إليها سكان تلك الدول لحياة أفضل. والثورة الليبية، التي اندلعت في الـ17 من فبراير 2011، لم تخرج عن هذا الإطار، بل وأثبتت أنه ليس لديها الكثير لتظهره حتى الآن.
فبعد عشر سنوات على الإطاحة بمعمر القذافي بعد التدخل العسكري الدولي، الذي قاده حلف الناتو منذ مارس وحتى أكتوبر 2011، لا تزال ليبيا غارقة في فوضى سياسية وأمنية فاقمتها التدخلات الخارجية والتي أدت إلى ظهور جماعات جهادية وحرمت المواطنين المنهكين من ثروات بلادهم الهائلة.
وبعد حروب وأزمات وانسداد للأفق، تحقّق في الأشهر الماضية تقدم سياسي «ملموس»، وفق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تمثل بحوار ليبي-ليبي في سويسرا والمغرب وتونس ومصر، أثمر الأسبوع الماضي عن اختيار رئيس حكومة ومجلس رئاسي جديد، وترافق مع انتعاش إنتاج قطاع النفط الحيوي للاقتصاد الليبي. ومع ذلك يواجه البلد تحديات متشعبة.
مكاسب هشة
عندما تم الترحيب بالثورة في بنغازي بشرق ليبيا باعتبارها حلقة أخرى من أحداث “الربيع العربي”، التي اجتاحت بالفعل تونس ومصر لتمتد في ما بعد إلى سوريا واليمن، تبين أن “الربيع الليبي” كان رحلة مليئة باليأس وسفك الدماء وانعدام الأمن وبلغ ذروته في حرب أهلية بعد تدخل الناتو أدخل البلاد في حرب وأدى في نهاية الأمر إلى شلل شبه كلي للاقتصاد.
وقد تسبب ذلك في بروز سلطتين تمثلان برلمان طبرق في الشرق ويدعمها الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وحكومة الوفاق الوطني المدعومة من تركيا في العاصمة طرابلس، منذ العام 2014، وبدأت الأطراف الخارجية تدعم كل طرف بالسلاح وخلّف كل ذلك بنى تحتية مدمرة في بلد تتحكم به الميليشيات وينتشر فيه المرتزقة ويسوده الفساد.
ويرى الخبير في منظمة المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية عمادالدين بادي أن الوضع استقر ظاهريا، لكن الزخم الدبلوماسي نتيجة تحفظ مؤقت عن القتال وليس نتاج رغبة صادقة للتوصل إلى حلّ. وقال إنه “بعد عشر سنوات على الثورة، ليبيا دولة مشوهة أكثر مما كانت في عهد القذافي”.
ويوجد في البلد الشاسع، والبالغ عدد سكانه نحو سبعة ملايين شخص، اليوم عشرات الآلاف من النازحين، بينما غادر مجددا عدد كبير من المهاجرين الذين كانوا عادوا إليها للمشاركة في إعادة الإعمار، كما فضل العديد من الليبيين اللجوء إلى عدة دول هربا من الصراعات المسلحة.
ومنذ فشل هجوم الجيش الوطني الليبي للسيطرة على طرابلس في أبريل 2019 وبعد أشهر طويلة من القتال على أطراف العاصمة، تسارعت مبادرات الوساطة لتسوية النزاع، فتم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة في الخريف الماضي وهو لا يزال ساريا على عكس اتفاقات سابقة اُنتهكت سريعا.
لكن لا يزال الآلاف من المرتزقة والمقاتلين الأجانب موجودين في البلاد، رغم أن الاتفاق نصّ على ضرورة مغادرتهم بحلول الـ23 من يناير الماضي. وقد سارعت الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن منذ توليها الحكم بالمطالبة بمغادرة القوات الروسية والتركية ليبيا فورا.
وأثمرت المحادثات بين الليبيين اتفاقا حول تنظيم انتخابات في ديسمبر المقبل، ومن المفترض أن تشرف الهيئة التنفيذية التي انتخبت أخيرا وأبرز أركانها رئيس الحكومة المكلف عبدالحميد محمد دبيبة ومحمد يونس المنفي رئيسا للمجلس الرئاسي، على المرحلة الانتقالية التي يفترض أن تقود إلى انتخابات ديمقراطية.
ورغم ذلك ترى مجموعة الأزمات الدولية أن ما تحقق لا يعدو أن يكون مكاسب لا يمكن البناء عليها لبسط الاستقرار مرة أخرى لأنه لا يزال هناك العديد من الخطوات التي يتعين اتخاذها قبل تشكيل حكومة الوحدة المؤقتة.
ويؤكد الباحث جلال حرشاوي أن الوضع يبقى هشّا فالليبيون مستاؤون للغاية ويعانون كثيرا من الجائحة والنخب لا تبالي بمعاناة الشعب. وقال إنه “على الرغم من تراجع عدد القتلى الليبيين، لكن هل تحقق تقدم على المستوى السياسي؟ هل زال الخطر؟ على الإطلاق”.
تحديات أمنية واقتصادية
تلى الإطاحة بالقذافي تفكيك الأجهزة الأمنية، وقد كانت العاصمة حتى وقت قريب مضى تحت هيمنة العشرات من المجموعات المسلحة المحلية التي تغيّر ولاءها باستمرار، لكنها صارت أقل بروزا مع تزايد حضور قوات الأمن.
وتحولت ليبيا إلى مركز لتجارة البشر في القارة، وصار عشرات الآلاف من المهاجرين تحت رحمة المهربين المحليين، يعيشون مأساة إنسانية ويتعرضون إلى انتهاكات جسيمة بينما يموت عدد كبير منهم أثناء محاولتهم العبور نحو الضفة الشمالية للمتوسط رغم جهود المنظمات غير الحكومية.
كما كانت الجماعات الجهادية حاضرة أيضا في المشهد لبعض الوقت وساهمت في دوامة الفوضى، وخلال ذروة سطوته سيطر تنظيم داعش على سرت مسقط رأس القذافي، حيث صارت المدينة نقطة انطلاق لشن معارك وهجمات طالت تونس خصوصا عامي 2015 و2016.
ثم انحسر التهديد الجهادي بشكل واضح، واعتبرت الإمارات ومصر وفرنسا أن الفضل في ذلك يعود إلى حفتر الذي ساهم في طرد المتطرفين من مناطق سيطروا عليها. ومع ذلك طالت أعمال العنف قطاع النفط في بلد يحوي أكبر احتياطي من الخام في أفريقيا ووصل الأمر إلى استعماله كورقة ضغط.
وقام حفتر بالسيطرة على الهلال النفطي، الذي يمتد من ميناء الزويتينة الذي تبلغ سعته التخزينية 6 ملايين برميل إلى ميناء البريقة ورأس لانوف الذي تبلغ قدرته التصديرية 220 ألف برميل يوميا، ومنها إلى ميناء السدرة، لدفع حكومة الوفاق على توزيع عوائد الخام بالتساوي قبل أن تبدأ المفاوضات السياسية للخروج من الأزمة.
ووصل إنتاج المحروقات في ديسمبر إلى 1.3 مليون برميل يوميا، أي أضعاف ما كان ينتج قبل عام، لكنه أقل من معدل الإنتاج اليومي قبل عشرة أعوام حين ناهز 1.6 مليون برميل. ويقول حرشاوي إن ما جرى أشبه بوضع “ضمادات” على الجراح بدل علاجها، إذ تعاني البنى التحتية في قطاع الطاقة من ضعف الصيانة.
بعد عشر سنوات على الإطاحة بمعمر القذافي لا تزال ليبيا غارقة في فوضى سياسية وأمنية فاقمتها التدخلات الخارجية
وكان العام الماضي صعبا إلى حد كبير، فقد تسبب الهجوم على طرابلس والحصار النفطي «بأخطر الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية في ليبيا منذ عام 2011»، وفقا للبنك الدولي.
ويؤكد الباحث في الشؤون الاقتصادية كمال المنصوري أن ليبيا تمر بتراجع اقتصادي غير مسبوق، خاصة مع الأضرار التي لحقت ولا تزال بقطاع النفط وهو المورد الوحيد للبلاد، جراء الإغلاقات المتكررة التي أثرت سلبا على عوائد النفط.
وتُضاف إلى كل ذلك أزمة نقدية كبيرة بوجود بنكين مركزيين، أحدهما في طرابلس وآخر مواز له في الشرق، الأمر الذي يعيق السيطرة على سياسة البلد النقدية رغم توحيد سعر صرف الدينار، بينما يعاني الليبيون من ضعف الإمداد بالوقود والكهرباء والتضخم المالي.