الناجون من انفجار بيروت يغرقون في ندوبهم النفسية

أزمات اللبنانيين تتناسل مع كورونا والضائقة الاقتصادية.
الأربعاء 2021/02/03
أهالي بيروت على شفا الجنون

تتناسل الأزمات على الشعب اللبناني، فبعدما عانوا من الحرب الأهلية ظلوا يعانون من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، ليتبعها انفجار مرفأ بيروت الذي خلف قتلى وضحايا بالآلاف، ما دفع بعضهم إلى الهجرة، وغرق البقية في أزماتهم النفسية التي لا يعرفون كيف يداوونها، في ظل انتشار وباء كورونا الذي حشرهم في المنازل.

بيروت - رقدت جوانا داغر فاقدة الوعي وتنزف تحت الحطام المتراكم في شقتها بعد انفجار بيروت الذي حدث في أغسطس الماضي، إلى أن  استطاعت أن تنجو بفضل شجاعة زوجها الذي أخرجها من تحت الحطام، وأيضاً بفضل لطف أحد الغرباء الذي نقلها إلى المستشفى في سيارته المحطمة، وبفضل شقيقاتها اللاتي ظللن بجوارها في المستشفى الذي كانت تعمه الفوضى في ذلك الوقت.

 داغر لا تتذكر أي شيء مما حدث، حيث فقدت الأم لطفلين والبالغة من العمر 33 عاماً ذاكرتها لمدة شهرين بسبب الصدمة التي عانت منها جراء الانفجار.

وقالت داغر “لقد فقدت كل شيء يوم 4 أغسطس. فقدت منزلي، فقدت ذاكرتي، فقدت اثنين من أصدقائي. فقدت صحتي العقلية، وفقدت كل شيء”.

وأثّر الانفجار على الصحة العقلية للناس الذين استطاعوا النجاة، وبدأت داغر تستعيد ذاكرتها بالتدريج، لكنها تعاني الآن من ألم من نوع آخر.

وعلى الرغم من أن جلسات العلاج النفسي تساعدها اليوم نوعا ما، إلا أنها تقول إنها “لم تعد كما كانت من قبل”.

وتقول شقيقتها جيهان إن “جوانا في العادة شخصية هادئة ومستقلة، لكنها تعاني الآن من نوبات غضب، وتوتر، وانغلاق عاطفي، وأحياناً تصبح عدوانية، وهي علامات اضطراب ما بعد الصدمة، بحسب الأخصائيين النفسيين”.

وأضافت جيهان “الأشهر الستة الماضية كانت معاناة بالنسبة إلينا، فعندما نرى أحد أحبائنا يعاني كثيرا، كلنا نعاني معه، ولا يمكننا فعل أي شيء”.

وجاء هذا الانفجار ليكون واحدا من أبرز مسببات الضغوط التي يشعر بها اللبنانيون جراء الأزمات المتعددة، من الانهيار الاقتصادي غير المسبوق إلى وباء كورونا، إضافة إلى الشعور بالعجز بعد الاحتجاجات التي اندلعت ضد الفساد، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها.

بعض اللبنانيين لا يهتمون لصحتهم العقلية والنفسية، والبعض الآخر يعانون من الفقر فلا يعتبرون الصحة العقلية أولوية
بعض اللبنانيين لا يهتمون لصحتهم العقلية والنفسية، والبعض الآخر يعانون من الفقر فلا يعتبرون الصحة العقلية أولوية

وقالت ميا عطوي، أخصائية علم النفس ورئيسة منظمة “إمبريس” -وهي منظمة تعمل في مجال التوعية بالأمراض النفسية ودعم الصحة العقلية- “هناك مستويات عالية جدا من القلق الذي ينتشر بين اللبنانيين الذين أصيب معظمهم بالاكتئاب السريري”.

وكثُر الذهاب إلى عيادات الصحة النفسية، مما يجعل من الصعب تلقي عناية كافية، وخاصة أن العديد من الأخصائيين المؤهلين غادروا البلاد أو هم بصدد المغادرة.

ووسّعت منظمة “إمبريس” عيادتها بعد الانفجار، ومع ذلك لا تزال لديها قائمة انتظار تضم 60 شخصا.

وقدمت المنظمة الدعم لـ750 شخصًا منذ الانفجار، قالت عطوي إن “معظمهم يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الانفجار والاكتئاب والقلق”.

وعلى خط المساعدة، تلقت المنظمة منذ أغسطس حوالي 67 في المئة من المكالمات الهاتفية التي يجريها أشخاص يعانون من ضائقات عاطفية، و28 في المئة من الاتصالات التي ترد من أشخاص لديهم ميول انتحارية.

وخلّف الانفجار إصابات عقلية حتى لدى أولئك الذين لم يصابوا بجروح جسدية، وبأعجوبة لم تصب نجلاء فاضل (33 عاما) بأي خدش بعد أن حطم الانفجار زجاج منزلها، لكنه أصاب جليسة طفلها إصابات بالغة.

ومنذ أن نقلت جليسة طفلها الحامل بطفلها الثاني إلى المستشفى لأنها كانت تنزف أصبحت تعاني من الكوابيس.

وغالبًا ما تستيقظ فاضل، وينبض قلبها، وتعتقد أن الانفجار قد حدث مرة أخرى. تقول فاضل “أقفز عندما أسمع أي صوت وأبدأ بالبحث عن مخبأ”.

وقالت إن “أسوأ ما في الأمر هو العواصف الرعدية وصوت الطائرات الحربية الإسرائيلية التي تخترق المجال الجوي اللبناني بانتظام وتطير على ارتفاع منخفض”.

وأضافت “قبل بضع ليال، عندما كانت الطائرات تحلق فوق بيروت، كنت أنام في الممر بين الغرف. وبهذه الطريقة أنا في منتصف المسافة من غرفة أطفالي، (حيث) يمكنني حملهم بشكل أسرع”.

Thumbnail

وزارت فاضل معالجا نفسيا على مدى فترة من الزمن، لكن الكثير ممن يعانون من الكوابيس لا يحصلون على الرعاية.

قالت ثريا فريم، الرئيسة والمؤسِّسة المشاركة لمنظمة “كيناكل دي لوميير” -وهي منظمة بدأت بعد الانفجار تقدم دعمًا مجانيا للمرضى النفسيين في بيروت- “هناك الكثير من الناس لا يهتمون بصحتهم العقلية، أو لا يعرفون ماذا يفعلون، ثم إن الناس يعانون من الفقر ويجدون صعوبة في تغطية نفقاتهم، وبالتالي لا يعتبرون الصحة العقلية أولوية”.

وقالت سارة كوبلاند من أستراليا، حيث انتقلت بعد الانفجار إلى مدينة بيرث، إنها كانت تزور معالجين نفسيين للتعامل مع صدمة ما خسرته.

وفي الانفجار اخترقت شظية من الزجاج صدر ابنها إسحاق البالغ من العمر عامين، منهية حياته القصيرة، حيث قالت إن حياتها توقفت في ذلك اليوم، وأضافت “لا أتمنى لأي أم أن ترى الصورة الأخيرة لابني الصغير، إنه أمر محزن للغاية”.

وفي ذلك الوقت كانت كوبلاند تعمل لدى مفوضية الأمم المتحدة في بيروت، وعلى بعد آلاف الأميال من لبنان لا تزال الذكرى الحزينة تطاردها إلى الآن، وقالت “إن منظر الزجاج المكسور وصوته مازالا يسببان لي القلق. وأنا مستلقية على السرير في الليل، أسمع صوت الرياح على النوافذ وهذا يخيفني حقا، أتجمد، لأنه يذكرني بصوت الطنين الذي سمعته عندما اخترق الانفجار نوافذنا”.

وأضافت أن إيثان (ابنها البالغ من العمر شهرين) يجعل لها هدفا في الحياة تعيش من أجله، لكن الألم لا يزال عميقا، “سماع صراخ الأطفال، حتى لو كان ذلك من باب المرح، يعيدني إلى المستشفى، إلى إسحاق والأطفال الذين يصرخون من (شدة) الألم”.

وفي شقة مؤقتة خارج بيروت قررت جوانا داغر البقاء في لبنان على الرغم من مغادرة الآلاف من اللبنانيين، وقالت “أريد أن أكون قريبة ممن أحبهم ومن عائلتي، ولن أسمح لهؤلاء السياسيين بإخراجي من منزلي أو بلدي، وسأبقى هنا لأرى العدالة تتحقق على أرض الواقع”.

ولكن مثل معظم الناجين من ذلك اليوم الرهيب، هناك خوف لا يتركها أبدا، “الخوف من فقدان من أحبهم أصبح (الآن) أقوى من أي وقت مضى”.

20