غيّاث المدهون: الشعراء الرواد بدأوا الحداثة وأقفلوها

غيّاث المدهون، الشاعر الفلسطيني المقيم في السويد، واحد من شعراء الجيل الجديد لقصيدة النثر العربية، هذا الجيل الذي منح القصيدة تنوّعا في اتجاهاتها وحساسياتها وأشكالها. بل ومكّنها من إحداث ثورة على البلاغة التقليدية في القصيدة العربية. وبمناسبة صدور ديوانه الأخير بعنوان “لا أستطيع الحضور”، التقته “العرب” وكان هذا الحوار.
تتنوّع قصائد ديوان “لا أستطيع الحضور” لغة ومناخاً، وعنوان المجموعة يضايق القارئ، حتى أنه لا يعرف أحيانا لماذا يفهم بعد القراءة أنه جزء من القصيدة، وهو أمر فنيّ يقول عنه غيّاث: “كُتبت القصائد بين الأعوام 2008 و2013 وهي مدة طويلة نوعاً ما، من الطبيعي أن تكون هناك فوارق في طرق الكتابة وأدواتها، وفي حساسية الكتابة في حد ذاتها، لم يعد شيء من ذاكرتي على حاله، الثورة السورية غيرت مفهومي حول كثير من الأشياء ومنها الشعر، بدأت أكتب بأقل ما يمكن من المجاز، بالأحرى، صرت أستثقل المجاز والاستعارة وأحس بكونها تفذلكاً ومواربة ودليل ضعف، أرغب في قول ما أريد بلا زخارف، بوضوح تام.
ثم إن عنوان الديوان يلخّص تلك الحال، فهو مأخوذ من قصيدة فيه، حيث كان لديّ صراع داخلي، بين البقاء في السويد متفرجاً أو السفر إلى تركيا والتسلل منها إلى سوريا مقاتلاً، ولكنني رجحتُ الخيار الأول، فقد كنت خائفاً من الموت وكنتُ أجبن من أن أضحي بحياتي، وكانت فكرة أن أقتل شخصاً في حد ذاتها تسبب لي هلعاً إضافياً، ولذا قررت أنني ببساطةٍ لا أستطيعُ الحضور”.
|
طلب الخلود
عن مناخاته الشعرية، يقول المدهون: “ورد ديواني الأول شعر تفعيلة بالكامل، وهو ديوان سخيف حقيقةً، الثاني كان تفعيلة ونثرا، الثالث كان نثرا، غالبا ما أرتجل قصائد على بحور الشعر العربي وأغلبها خمريات وقصائد رذيلة أستمتع بها مع أصدقائي فقط. قصيدة النثر هي أجمل نوع أدبي وصلت له البشرية، حقيقةً، لا شيء يضاهيها، وأعمل جاهداً في إيجاد صوتي الخاص فيها”.
يرى البعض أن النشر هو نوع من الزوال التدريجي للنص. وهو أمر يدعونا إلى التساؤل حول ما الذي يدفع كاتباً إلى أن يواصل الكتابة، هل هو استدراك نقص دائم وجوهري في ما كتبه؟ أم هو سعي من الكتاب إلى تصحيح كتاب آخر؟ ويجيب المدهون بقوله: “بصراحة لستُ متأكداً من أنَّ النشر زوالٌ للنص، أرى أن النص لم يكن موجوداً إلى حين نشره، أي أن النشر بمعنى أو بآخر بداية النص. أما ما الذي يدفع كاتباً لكي يواصل الكتابة فليس لديّ جواب واضح حول الموضوع، أشك في عدة أمور مرتبطة بالكتابة، ولكن المتعة أحدها، متعة الكتابة، وهي متعة لا يستهان بها. والموت كذلك، فالموت دافع قوي يختفي خلف الكثير من الإبداع ويحرّكه، أقصد الخوف من الفناء والزوال، ومحاولة تخليد النفس من خلال الأثر الأدبي”.
فالكتابة عموماً تنبع من تصوراتنا عن الأشياء أكثر مما تنبع من حقيقة الأشياء في حد ذاتها، وفي هذا يقول المدهون: “أنا لا أرى الكتابة اختباري الخاص بقدر ما أراها تصوري الخاص عمّا حولي، أنا مسؤول مسؤولية كاملة عن كل كلمة في نصوصي، وهي نابعة من وجهة نظري التي كونتها من خلال فهمي لما حولي والذي ليس من الضروري أن يكون مرتبطاً بالتفكير الجمعي، كذلك أرى أنّ النص يمكن تأويله ولكن إلى حد معين، بعدها يصبح من الصعب ليّ عنق النص وتحميله أكثر من طاقته، أنا آخذ الكتابة كفعل ببساطة شديدة، أما متن النص وما أريد قوله فيتطلب مني جهداً مركباً”.
ضد المجاز
في نصوص غياث المدهون لغة مكثفة تشكّل لوحات شعرية ، وهي لوحات مصاغة في خطاب إلى الأنثى، وهو ما يقول عنه المدهون: “بصراحة أنا أحاول أن أجعل المخاطب في قصائدي مبهماً، في أحيان كثيرة لا يهمني جنس المخاطب، الجندر حسب فهمي مكتسب في كثير منه ويختلف بين مجتمع وآخر، لا أعرف إن كنتُ أخاطب الأنثى كما تخبرني، ولكنني حتى لو فعلت فإنني لا أظنه مخاطرة، على العكس”.
في الولايات المتحدة الأميركية ثمة كتابة نشأت قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها، هناك الكتابة الأوتوماتيكية والشعر اليومي. هناك كتابة خارجة مباشرة من الحياة، من قوة العيش وليس من المتخيل. كتابة تنشأ مباشرة من الواقع ولا تسعى غالباً إلى تأويل هذا الواقع إلى حد ما.
وهل من الممكن أن يخرج نصك تحت تأثير هذا التحوّل الذي يجري في الواقع؟ يجيب المدهون قائلا: “أنا ضد المجاز في الآونة الأخيرة، صراحة هو غير واقعي، وساذج، لا أعرف من ورّط الشعر العربي بهذه الكمية الضخمة من الهراء الذي يحشو به الشعراء العرب قصائدهم، من هذا الذي أقنعهم أن القصيدة تحتاج أن تكون متخمةً بالصور الشعرية والاستعارات والتشابيه، القصيدة من وجهة نظري تحتاج أن تكتب بجودة عالية، تحتاج سعة اطلاع من الشاعر، ومعرفة باللغة وبساطة في الوصول إلى الغاية، سلاسة في التعبير، وعقلية متحررة وتواقة للاكتشاف، الشاعر يحتاج أن يكون صادقاً مع نفسه، متخففاً من الشللية، ويحتاج مساحة شاسعة من الحرية. أعود وأؤكد أن هذه وجهة نظر خاصة، أما بالنسبة إلى سؤالك عن الكتابة الخارجة مباشرة من الحياة، فصحيح، في الولايات المتحدة وغيرها ظهرت كتابة من الواقع ولم تسع إلى تأويله، وأظنها ستظهر مع إرهاصات الثورة السورية”.
الشعراء الرواد بدأوا الحداثة وأقفلوها، بمعنى أنهم أقاموا هذا البديل الأيديولوجي مكان النسق السابق، وحول مدى اعتقاده في أن بيانات هؤلاء وتنظيراتهم تحولت إلى معطل في الثقافة الشعرية الحديثة، بمعنى أنها تحولت إلى مقياس، يقول المدهون: “أنا أرى بأن الموضوع يختلف من شاعر إلى آخر، لا نستطيع جمع جميع الرواد في نسق واحد، ولكن هناك سؤال مهم في هذا السياق: هل سينظر إلينا الجيل الذي يأتي بعدنا بنفس النظرة، كمعطلين للأدب، الأغلب أن الجواب سيكون نعم.
أضف إلى ذلك تأثير الأدباء السياسي والاجتماعي وحتى على تاريخ الأدب، وليس تأثيرهم على الأدب فقط، كثير من الأدباء أشعر بسعادة إزاء موتهم قبل بدء الثورة السورية، لأنهم أراحونا من مفاجئات غير متوقعة، لقد تفاجأنا بما فيه الكفاية بالعديد من الكتاب الأحياء ومواقفهم ممّا يحصل في بلدانهم، ولكنني أعود وأكرر لنفسي، لا بأس، يجب فصل الأدب عن الحياة الشخصية، لا يجب علينا أن نحاكم الأدب من زاوية أخلاقية، بصدق، دائماً ما أحاول أن أبرر لنفسي موقف أدونيس السلبي من الثورة، صمته إزاء مجازر النظام، أقول: إنه ليس استثناءً، هنالك الكثير من الأدباء والفنانين الذين نحترم أدبهم كانوا يقفون في صف الجلاد، خذ مثلاً “عزرا باوند” الذي كان يؤيد الفاشية، من الفلاسفة لديك “مارتن هايدغر” الذي كان نازياً بامتياز، وفي الفن لا نستطيع أن نتجاهل مواقف “خوان ميرو” و”سلفادور دالي” التي وقفت في صف فاشية فرانكو خلال الحرب الأهلية الإسبانية، فالأمثلة كثيرة وعليه يبدو جلياً أن الموقف السياسي للأديب والفنان قد يكون على النقيض من أدبه أو فنه ولا بد من احترام وجهة نظره”.