صلاح عبدالله.. وارث "عباقرة الظل" الذي يُجيد التنقل بين الخير والشر

نراه شريرا فنجفل، وتنقبض أرواحنا كأنه كتلة شر حقيقية تكاد تلاحقنا. ونبصره نبيلا طيباً، فترقّ قلوبنا تعاطفاً وانحيازاً. نحمل أمانيه، ونردّد آماله لنفرح لفرحه، ونُصدّقه كشخص يُجاورنا ويعايشنا ويسكن بيننا. يملك القدرة على أن يضحكنا ويبكينا، ليبقى في أذهاننا سحرا خالدا، ومثله قليلون، يعيشون في نفوسنا مُبهجين ومُمتعين بجمال مواهبهم، فلا يمحوهم الزمن، ولا ينساهم الوجدان. منهم الفنان المصري صلاح عبدالله، “السنّيد” الأكثر حضورا من أصحاب البطولات الأولى، المبدع الساحر في الأدوار الثانوية.
يمسك عبدالله بأيدي الممثلين الشباب في رحلات صعودهم، مُنكرا ذاته وواثقا في موهبته في الوقت نفسه، متنقلا بين شخوص تحبهم ووجوه تكرهها بمرونة مبدع موهوب لا يمنعه مانع من إقناع المشاهد بدوره كحجر أساسي في بناء الجمال الفني.
ملح السينما
كان الناس يستصغرون كلمة “السنّيد” في السينما، ويعتبرونها تقليلا من موهبة الفنان، أو حكما نهائيا بتحديد إقامته، فهو وفق المفهوم الشائع سيبقى ثانويا أو هامشيا، أو معاونا لا يحظى بالشهرة الأعظم، والتقدير الأكبر.
البعض لا يلقي بالا لأصحاب الأدوار الفرعية ويتصور أنهم كُثر ويمكن استبدال أي منهم بآخر، لكن ذلك لم يكن صحيحا، فقد فطن النقاد مؤخرا إلى أن وجود فنانين ثانويين له حضور وأثر أكثر ممن يحظون بصدارة المشهد.
ولم يكن غريبا أن تصدر كُتب عديدة حول هؤلاء الذين يمدون سلالم الصعود للفنانين الأحدث سنا، ويساعدونهم للتميز والتحقق، مثل كتاب “ملح السينما” للكاتب مؤمن المُحمدي، وكتاب “عباقرة الظل” لمصطفى بيومي. فهم وإن لم يحصلوا على الشهرة المستحقة والتقدير المناسب، فلا يمكن تصور مسيرة السينما دونهم، لأنهم يلعبون دورا مهما في أعمالهم.
كان لقب “السنّيد” يلاحق عبدالله كظله، وربما شعر كما ذكر في ما بعد في أحد حوراته الصحافية، أنه كان يحزن لسماع هذه الكلمة كوصف له، ويشعر أنه حكم نهائي ضده. معناه أنه لا يُمكن أن يلعب بطولة منفردة، فملامحه لا تتناسب مع فتى وسيم قادر على أداء الدور المعتاد لشاب فاتن للنساء، وهيأته لا توحي بالقوة الجسمانية الملائمة لتصور كونه بطلا ينتصر على الآخرين.
الشخصيات التي يجسدها عبدالله تلعب بعقول المشاهدين، بين جميلة وبغيضة، فنراه في فيلم "الرهينة" يقدم شخصية عالم وطني محبوب، ثم يظهر في فيلم "الشبح" في العام التالي، ليطل علينا كقاتل عنيف
بنفسية المبدع الموهوب وعزيمة المخلص لفنه والمُتيم به، رفع أكف المقاومة ورفض سياج الإحباطات وأصر أن يجعل من الدور الثاني والبطولات الفرعية سحرا لافتا. فبدا أكثر إتقانا وحضورا وتأثيرا من فنانين وضعتهم معايير المواءمات في مواضع البطولة الأولى.
يقول “كان يزعجني في بعض الأوقات أن يصفني البعض بكلمة سنّيد، وكنت أشعر أن الكلمة تقلل مني، لكن بعد تفكير وجدت أنها تأتي من السند والدعم، بالتالي ليست عيبا، والعالم كله يحترم الممثل الثاني والثالث ولا يقيس الفن بالحجم والبطولة، ومع الوقت وجدت الأمور رائعة وتصالحت مع المنطقة الثانية ووجدت نفسي فيها وأبدعت بما أستطيع”.
بدت طلّاته المبكرة ذات مغزى حتى أنها علقت بأذهان الناس، فظلوا يكررون طريقته في الحديث أو بعض الكلمات المركبة التي قدمها بشكل مستغرب، كأنه يغرسها غرسا في أدمغة المشاهدين. وليس أدل على ذلك من تكرار الناس لطريقته في التنكيت عندما شارك بدور هامشي في مسلسل “سنبل بعد المليون”، بطولة الفنان محمد صبحي، ومن تأليف أحمد عوض، وإخراج أحمد بدرالدين.
دخل “عم صلاح”، وهو الوصف المحبب للكثير من نجوم الفن عند تعاملهم معه، قلوب الناس صغيرا عندما ظهر في مسلسل “ذئاب الجبل”، بطولة الفنان أحمد عبدالعزيز وسماح أنور، وتأليف محمد صفاء عامر، وإخراج مجدي أبوعميرة، وقد نجح خلاله في صناعة مزج غريب ومبهر بين التراجيديا والكوميديا لدرجة أن كبار المخرجين لاحقوه بعدها وعرضوا عليه تقديم أدوار عديدة. ولم يكن غريبا أن تتكرر طلّاته ليمثل حالة نموذجية لفنان قادر على التنقل بسرعة وخفة وإقناع بين أدوار الكوميديا والتراجيديا وتبديل وجوه الخير والشر كمَن يُبدل ملابسه دون أن ينتقص من أدائه أي شيء.
يا مهلبيّة
شارك في فيلم “يا مهلبية يا” بطولة ليلى علوي من تأليف ماهر عواد، وإخراج شريف عرفة، وبزغ في فيلم “الرغبة” بطولة نادية الجندي ومن إخراج علي بدرخان، ثم لمعت موهبته بقوة في فيلم “مواطن ومخبر وحرامي” بطولة خالد أبوالنجا، وهند صبري، وإخراج داوود عبدالسيد، وهو ما اعتبره البعض أفضل وأقوى أدواره التمثيلية.
وهو نفسه يُقر بذلك، إذ قال في حوار صحافي سابق، إن دوره كمخبر كان أهم دور في مشواره الفني، والفضل في ذلك يرجع للمخرج داوود عبدالسيد، الذي كان يؤمن بأنه قادر على الظهور كحزمة شر مستطر.
مرة أخرى ينتقل عبدالله بين شخصيات جميلة وأخرى بغيضة، فنراه في فيلم “الرهينة” مع الفنان أحمد عز والفنانة ياسمين عبدالعزيز، تأليف نبيل فاروق، وإخراج ساندرا نشأت، يقدم شخصية عالم وطني محبوب، ثم يظهر في فيلم “الشبح” في العام التالي مع أحمد عز وزينة، وتأليف وائل عبدالله، وإخراج ساندر نشأت، ليطل علينا كقاتل عنيف وبلا أخلاق.
لا يجد عناء في أن يؤدي دورا في الدراما بنفس الهمة والحماس التي يعمل بها في السينما. فالتمثيل بالنسبة له هدف في حد ذاته بغض النظر عن الوسيلة، إنه يقول “إنني على استعداد أن أقدم أي دور جيد سواء في السينما أو التلفزيون، فالتقييم هنا للجودة وليس مكان العرض، وفي الماضي كان البعض يعتقد أن السينما أهم في النجاح والانتشار، بالإضافة إلى أنها تمثل ذاكرة وتاريخا للفنان أكثر من التلفزيون، لكن مع الوقت وجدنا مسلسلات مازالت تحقق نجاحا ورد فعل رغم مرور العشرات من السنوات على عرضها، ولهذا لم يعد هناك فرق بينهما”. وضرب الفنان القدير مثلا بمسلسل “عائلة الحاج متولي” و”لن أعيش في جلباب أبي” و”ذئاب الجبل” و”ريا وسكينة” وغيرها من الأعمال التي اعتبرها مهمة وخالدة، بل ومنتشرة أكثر بحكم وجودها في كل منزل.
ممثل وسياسي وشاعر
عبد الله من محيط شعبي بسيط، ولد في 25 يناير 1955 في حي بولاق أبوالعلا بوسط القاهرة، وقضى سنواته الأولى متنقلا بين بعض أحياء القاهرة الشعبية قبل أن ينفتح وعيه السياسي على التوجهات الاشتراكية، ثم يلتحق بكلية التجارة جامعة القاهرة، ويشارك في فرقة المسرح الخاصة بالجامعة، وتجلت موهبته في عرض مسرحي للكاتب سعدالدين وهبة بعنوان “آه يا بلد”، ثم يشارك في أدوار ثانوية في بعض المسرحيات الخاصة، أبرزها مسرحية “العسكري الأخضر”، ثم شارك في مسرحية “رابعة العدوية”، ورشح بعدها للانضمام لفرقة استديو 80 التي كوّنها الفنان محمد صبحي والكاتب لينين الرملي.
بعد نجاحات عديدة في أدوار صغيرة صار عبدالله عاملا أساسيا في إنجاح ممثلين شباب كثّر، وقف إلى جانبهم، في مقدمتهم الفنان أحمد عز. قدم ما يقرب من 40 مسلسلا، في أدوار شديدة التنوع بين مقاول أنفار، وضابط شرطة، ومطرب شعبي، وعالم فيزيائي، ومدرس، ولص، وقاتل مأجور، ومحتال، وتقمص شخصيات معروفة مثل الفنان الكوميدي إسماعيل ياسين، والسياسي المصري مصطفى النحاس، ونجح في إقناع المشاهد بقدرته الفذة على تجسيد الشخصية دون افتعال، ما جعله نموذجا للإجادة وبات يُمثل دليلا ومرشدا للممثلين الشبان جيلا بعد آخر.
يتميز عبدالله عن الكثير من أقرانه من الممثلين بثقافته الواسعة واهتمامه بمتابعة أحدث الكتابات في مجالات الأدب والفنون والتاريخ والسياسة، وهو إلى جانب ذلك شاعر اعتاد كتابة القصائد بالعامية، وله ديوان شعر منشور بعنوان “تخاريف”، يضم قصائد بالعامية المصرية تتناول ظواهر مجتمعية محيطة.
"عم صلاح" يسكن قلوب الناس منذ أن كان صغيرا، عندما ظهر في مسلسل "ذئاب الجبل"، وقد نجح حينها في تقديم مزج غريب ومبهر بين التراجيديا والكوميديا لدرجة أن كبار المخرجين أخذوا يلاحقونه بعدها
يفاجئ جمهوره عبر صفحات التواصل الاجتماعي بقصائد ومقطوعات شعرية للتعليق على ما يدور في المجتمع والحياة العامة من أحداث وظواهر، وأبرز ما نشره في هذا الشأن مؤخرا قصيدة موجعة حملت رثاء لشخصه يتخيل وفاته وردود أفعال المحيطين به، ويقول فيها: “لما مُت، عملتوا إيه؟ كان نفسي أشوفكم. بس ما قدرتش أشوف لأني مت. بس وحياة ميتينكوا، والكلام بيني وبينكوا، لما مت زعلتوا عليا قد إيه؟ يوم.. يومين تلاتة بالكتير؟ مش بلومكم. دانا عايزكوا تعيشوا يومكم. صدقوني يومين كتير كفاية يوم. أو نص يوم أو ربع يوم. أو ربع ساعة. المهم لما تشوفوا صورتي أو تيجي سيرتي، تذكروني، تذكروني بكل خير، وحبذا لو كانت الذكرى بدموع أو شحتفة أو حشرج أو نهنهة”.
من منظوماته الشعرية العامية تلك التي تتناول مواقف خاصة، منها تعرضه لعقاب من الفنان محمد صبحي عندما كان عضوا في فرقته المسرحية، حيث تأخر يوما فقام صبحي بخصم يوم من أجره، فكتب فيه قصيدة شكوى يقول فيها “روحت أشكي للنجوم والغيوم والمطر، إنه طعن بسيف مسموم قلبي البريء، أكمنه مضي بخصم اليوم ولا رجع عنه، قال يعني عمري يا صبحي ناقص يتخصم منه، بالذمة جالك قلب تمضي على المقسوم، بالذمة جالك قلب، بالذمة جالك نوم؟ مضى حبيبك مضى يا قلب يا مصدوم. زي القضا والقدر. أتى نبأ مشؤوم، يا صدي رد القضا بصرخة المظلوم، ولا زمان الرضا ولا الرضا مفصوم، ليه يا صبحي كدا؟ ولا عاد عتاب ولا نوم”.
ويبقى الفنان صلاح عبدالله قدوة ومثالا في الجدية والالتزام والاجتهاد، ولا يتورع وهو في هذه السن عن المشاركة في أعمال عديدة. فالتمثيل بالنسبة له وسيلة للمساهمة في رفع وعي المجتمع، وتسليط الضوء على قضايا مختلفة.