بهاء طاهر مبدع مصري يخترق الأجيال ووسائل التواصل

الأديب بهاء طاهر يجسّد نموذجا مثاليا لأديب فذّ كبير وفريد آثار شغف أجيال عديدة ومازال رغم توقفه عن الكتابة لافتا وجاذبا للأجيال الشابة من المثقفين والقراء.
الثلاثاء 2021/01/26
بهاء طاهر صاحب مشروع يحكمه الحس الصوفي وصراع العوالم

ثمة مبدعون مختلفون اختطّوا لأنفسهم مسارات فريدة تمايزوا بها، فلم يجمعهم تصنيف، ولم يسيروا خلف قطيع. بدوا أفرادا كجماعات، فحملوا سمات لافتة، ومثّل كل منهم وحده مدرسة أدبية قلّما تتكرر عبر الزمان. قليلون هم، نادرون جدا، لكنهم يحوزون إجماعا واعترافا بالتفرد من شلل الثقافة المخضرمة، والعتيقة، والشبابية على حد سواء.

من أبرز هؤلاء في ساحة الثقافة العربية الآن الأديب المصري بهاء طاهر الذي احتفل محبّوه وقرّاؤه وأصدقاؤه منذ أيام قليلة في القاهرة بعيد ميلاده السادس والثمانين، مُعبرين بمحبة صادقة عن امتنانهم لكاتب يرونه شديد التميز، يعيش بعيدا عن الصخب، متواريا عن الإعلام وقانعا بالظلال.

يبقى طاهر واحدا من أواخر أبناء جيل الستينات، ذلك الجيل المهم البازغ بخطابه، واللافت بتجاربه، والمُثير بتجديده وتطويره في الكتابة الأدبية شعرا، رواية، قصة قصيرة ومسرحا. وهو يجسّد نموذجا مثاليا لأديب فذّ، كبير وفريد آثار شغف أجيال عديدة، وما زال، رغم توقفه الآن عن الكتابة، لافتا وجاذبا للأجيال الشابة من المثقفين والقراء. وتعد تجربة بهاء طاهر شديدة التميز من حيث انتمائه إلى جغرافيا مهمشة وفي ظل احتكاكه المباشر والمبكر جدا مع الثقافات الغربية عبر العمل في الترجمة، ثم من خلال تجربة اغترابه لسنوات طويلة تكللت بزواجه من سويسرية بعد قضائه نحو عقدين في جنيف وبعض المدن الأوروبية الأخرى.

أصابع الآخرين

العديد من المهن المرتبطة بالكتابة والفنون تغلّف حياة طاهر الذي اشتغل مخرجا لبضع سنوات، وكاتبا وناقدا في الصحف، غير أن أفكاره وآراءه التي حملت الكثير من الجرأة دفعت السلطات في مصر إلى منعه من الكتابة
العديد من المهن المرتبطة بالكتابة والفنون تغلّف حياة طاهر الذي اشتغل مخرجا، وكاتبا وناقدا في الصحف، غير أن أفكاره وآراءه التي حملت الكثير من الجرأة دفعت السلطات في مصر إلى منعه من الكتابة

تميز واستقلال تجربة طاهر الإبداعية تلخصهما العبارة الشهيرة التي سبق أن قدمه بها الكاتب الراحل يوسف إدريس عندما قرأ أعماله الأولى في نهاية الستينات، حيث وصفه بأنه كاتب لا يستعير أصابع غيره، بمعنى أنه من الصعب الإمساك به متلبسا بتأثره فنيا بشخص ما، أو بأسلوب بعينه.

منذ بداية تجربته بدت موضوعاته وكأنها تنسكب عبر صفحات الكتب بروح مغايرة، ولمعت مفرداته وكأن لها مذاقا مختلفا، وحتى عناوين أعماله جاءت متجددة وجريئة وحيوية. تحقق ذلك تدريجيا وبروية ومن خلال تراكمات معرفة ووعي، وهو ما جعل الكثير من المتابعين له يكررون أنه بدأ مشروعه الأدبي متأخرا عن باقي جيله، فلم يكتب القصة القصيرة إلا بعد أن تجاوز الثلاثين من عمره، ولم يكتب وينشر الرواية إلا بعد أن تجاوز منتصف الأربعينات.

ولد طاهر في 13 يناير سنة 1935، ويبدو أن محبته الطاغية للتاريخ والتي شكلت في ما بعد إحدى سمات السرد لديه، دفعته للالتحاق بكلية الآداب، قسم التاريخ، ليتخرج في جامعة القاهرة سنة 1956. وكان إلمامه باللغة الإنجليزية وإتقانه لها دافعا له لأن يلتحق بهيئة الاستعلامات المصرية في وظيفة مترجم، ما سهل له الاطلاع الواسع على الثقافات الغربية، والتعرف بعمق وتنوع على آداب أوروبا الحديثة. ثم انتقل للعمل في الإذاعة المصرية، وبدأ في مطلع السبعينات في نشر أولى مجموعاته القصصية “الخطوبة” التي أحدثت جدلا واسعا ولفتت الأنظار باعتبارها نمطا جديدا في القصة القصيرة.

طاهر يعتبر واحداً من أواخر أبناء جيل الستينات، ذلك الجيل المهم البازغ بخطابه، واللافت بتجاربه، والمُثير بتجديده وتطويره
طاهر يعتبر واحداً من أواخر أبناء جيل الستينات، ذلك الجيل المهم البازغ بخطابه، واللافت بتجاربه، والمُثير بتجديده وتطويره

عمل في كثير من المهن المرتبطة بالكتابة والفنون فاشتغل مخرجا لبضع سنوات، وكاتبا وناقدا في الصحف، غير أن أفكاره وآراءه التي حملت الكثير من الجرأة دفعت السلطات في مصر إلى منعه من الكتابة، ما جعله يسافر للعمل مترجما في هيئة الأمم المتحدة، ويتنقل بين دول أفريقيا وآسيا، ثم يستقر في النهاية في مدينة جنيف، ويتزوج ويظل هناك حتى سنة 1995 وقت تقاعده لبلوغه سن الستين، قبل أن يعود مرة أخرى إلى مصر.

قدم طاهر إبداعات متنوعة ومهمة أبرزها مجموعة قصصية بعنوان “بالأمس حلمت بك”، ثم مجموعته المثيرة للإعجاب “أنا الملك جئت”. ولم يلبث أن بدأ في الانتقال إلى الرواية ليقدم سنة 1985 روايته الأولى “شرق النخيل”، ثم تلتها رواية “قالت ضُحى”، ثم “خالتي صفية والدير” التي تم تحويلها إلى مسلسل درامي.

وبعد بلوغه سن التقاعد، فاجأ طاهر جمهور الإبداع بروايته الرائعة “الحب في المنفى” التي شكلت ذروة نضجه الإبداعي، ثم واصل تألقه في ما بعد بروايته التالية “نقطة النور”، ثم رواية “واحة الغروب”، إلى جانب مجموعته القصصية “لم أعرف أن الطواويس تطير”، وترجمته لرواية “الخيميائي” لباولو كويلهو، فضلا عن كتاب سردي بعنوان “أبناء رفاعة والحرية”.

في ذلك الوقت أنتج التلفزيون السويسري فيلما وثائقيا طويلا عن طاهر تناول مشروعه الإبداعي وأهم محطات حياته، كما قام الشاعر والباحث المصري شعبان يوسف بجمع مقالات طاهر في النقد المسرحي والتي نشرت في مجلتي “الكاتب” و”المسرح” خلال حقبة السبعينات وفي كتاب كان عنوانه “بهاء طاهر ناقدا مسرحيا”. وتكلل تحقق وتألق طاهر عام 1998 بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في مصر، وترجمت معظم أعماله إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية.

كان في وصول رواياته إلى القراء الأوروبيين فرصة سانحة للتعرف على أعمال الأدباء العرب بعد نجيب محفوظ، ما أهله للفوز سنة 2000 بجائزة غوزيبي أكيربي الإيطالية عن روايته “خالتي صفية والدير”، ثم جائزة آلزياتور الإيطالية سنة 2008 عن روايته “الحب في المنفى”. وفي العام ذاته حصلت روايته “واحة الغروب” على الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”، ثم حصل على جائزة مبارك للآداب بمصر، لكنه قام بردّها في ما بعد خلال احتجاجات يناير 2011.

سمات مميزة

كتب

في تصور الكثير من النقاد، هناك خصائص واضحة وسمات مميزة لكتابات طاهر الأدبية تجعله محل إقبال واهتمام الأجيال المتتالية من المثقفين، وأولها الالتفات إلى الصراع الحضاري والثقافي بين الشرق والغرب وتحولاته منذ حقبة الاستعمار وما تلاها.

ويختلف في قراءته لذلك الصراع عن الأديب السوداني الطيب صالح في روايته الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشمال” من خلال تركيز طاهر على عنصر الدين كحاجز بين العالمين الشرقي والغربي، مبديا امتعاضا واضحا ومباشرا من فكرة التلاعب السياسي والشعبوي بالدين لخدمة مصالح أخرى، وربما جاء ذلك تأثرا بخلافه الشديد مع النظام المصري في حقبة السبعينات وما شهدته من تسييس واضح للدين وتوظيف في معركة الدولة مع قوى اليسار.

ويقول الناقد مصطفى بيومي، الذي أصدر كتابا نقديا بعنوان “معجم شخصيات بهاء طاهر”، إن الحس الصوفي يمثل محورا رئيسيا في أعمال الأديب القصصية والروائية، وهو حس صوفي عام ووجداني يتجاوز إطار الدين بمفهومه التقليدي، بما يعني الحرص على ذاتية الإنسان كإنسان بغض النظر عمّا يعتقده.

كما أن الاهتمام بالأسرة ودورها في تشكيل الشخصية الشرقية يكاد يمثل خيطا جامعا بين كثير من أعماله، كأنه يرفض الأطر الفردية الحاكمة للسياسة والإدارة ونظم العمل في كثير من المجتمعات العربية، مستعيضا عنها بالأسرة، ويظهر ذلك بوضوح أكبر في مجموعته القصصية الأولى “الخطوبة” والمجموعة الأخيرة “لم أكن أعرف أن الطواويس تطير”.

إبداع فوق الحواجز

طاهر يحظى بإعجاب كبير من جيل جديد يتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقولات من أعماله، لاسيما مسلسله “خالتي صفية والدير”
طاهر يحظى بإعجاب كبير من جيل جديد يتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقولات من أعماله، لاسيما مسلسله “خالتي صفية والدير”

من العناصر المهمة الحاكمة لأعماله الاهتمام بالبيئة الصعيدية وسماتها الاجتماعية، باعتبارها بيئة شبه مختلفة عن باقي البيئات المجتمعية في مصر، بما تحمله من عادات وتقاليد أكثر صرامة، وهو في ذلك يُقدم رؤية مشابهة لما قدمه الأديبان يحيى حقي ويحيى الطاهر عبدالله في كثير من أعمالهما، غير أنه يختلف عنهما في أسلوب المعالجة.

نظر حقي إلى الصعيد بعين السائح الزائر المندهش دوما من ممارسات الناس وحيواتهم، بينما نظر عبدالله إليه كمنتمٍ ومدافع ومبرر لتصرفات الناس وفق ما يعانونه، غير أن طاهر تناول الصعيد كأنه طبيب فاحص للشخصية الصعيدية فحصا ينفذ إلى دواخلها ويحدد حسناتها وسيئاتها.

طاهر يختلف عن الأديب السوداني الطيب صالح وروايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" لناحية قراءته للصراع بين الشرق والغرب من خلال تركيزه على عنصر الدين كحاجز

في رأي بيومي، هناك نواحٍ عدة تمثل تفوقا واضحا في التناول لدى طاهر قياساً بأقرانه من جيل أدباء الستينات والسبعينات، وهي نظرته للحب والجنس، وبطولة الزمن والإحساس الطاغي بأفعاله وتأثيراته على الأفراد، وفكرة الموت عموما، والشعور بالوحدة والغربة، ما جعله أكثر تميّزا في جيل الأدباء المصريين خلال الأعوام العشرين الأخيرة.

هناك ثيمات أخرى تلفت أنظار القراء في العموم، منها تجاوز حواجز اللغة والزمن والجغرافيا، فروايات الرجل صالحة لكل زمن ومفهومة ومثيرة للشغف لدى قراء العربية، كما هو الحال لدى قراء غيرها من اللغات، بعد ترجمتها، لاشتمالها على نماذج وموضوعات السرد التقليدي من رومانسية وتأمل وفلسفة وصراع وغموض ومكابدة وإثارة.

وتلوح كنماذج سرد مُقنعة لمختلف الفئات والأعمار، فيرتبط بها جيل الشباب واليافعين الذين يمدون خطواتهم الأولى في رحلة الثقافة، كما يرتبط بها جيل الوسط، ويُتيم بها جيل الكبار بإطلالاتها على الأزمنة الفائتة.

مفاجأة طاهر لجمهوره بعد تقاعده تتمثل في روايته "الحب في المنفى" التي شكلت ذروة نضجه الإبداعي، بعدها واصل تألقه بروايته التالية "نقطة النور"، ثم رواية "واحة الغروب"

 تبدو روايات طاهر عابرة للثقافات والأجناس والأديان واللغات والحدود، بتعبير الناقد إيهاب الملاح، موضوعها الأساسي هو الإنسان وعذاباته وما يكابده وما يعانيه. وحسبنا أن نجد هذا المبدع محط إعجاب وتعلق من جمهور كبير من جيل مختلف يتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من مقولاته المستخلصة من أعماله الأدبية المختلفة، منها مثلا عبارة ترد في روايته “واحة الغروب” يقول فيها “لا أفهم معنى للموت، لكن ما دام محتماً فلنفعل شيئاً يبرر حياتنا، فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها”. وفي الرواية ذاتها يقول على لسان البطل “يمكن أن تحكم الناس بالخوف والقمع، لكن الخائفين لا يمكن أن ينتصروا في حرب، ففي ساحة الحرب يجب أن يكونوا أحراراً”.

تكاد تكون بعض العبارات أشبه بنصائح أو وصايا، فنجده مثلا في رواية “نقطة النور” يقول “وماذا كانت ستفعل بنفسها في ليالي الوحدة والخوف، لو لم تكن الكتب هناك؟”، وهو هنا يشجع الناس على القراءة للهروب من المشاعر السلبية. وتبقى بعض العبارات أشبه بحكم حياتية خالدة مثل قوله في رواية “قالت ضحى” إن “الناس يُصفعون كل يوم، ولكن قليلاً منهم من يشعر بالإهانة أو الغضب”.

13