"طيف إسطنبول".. صورة عن الهوة الاجتماعية والثقافية في تركيا

حققت الدراما التركية انتشارا في العالم العربي، في السنوات الأخيرة، لأنها تقدم قصصا غرامية ومغامرات بوليسية تشويقية وأحيانا أعمالا تاريخية موجهة يفتقدها المشاهد العربي، إلا أنّ أحدث الإنتاجات الدرامية التركية قد جذب اهتمام المتابعين لكشفه حقائق عن طبيعة المجتمع وما يحمله من تناقضات وصراعات.
إسطنبول - يلقى مسلسل “طيف إسطنبول” الذي تعرضه منصة “نتفليكس”، انتشارا واسعا في تركيا والعالم، لمعالجته موضوعا واقعيا يتناول قضايا الهوة الاجتماعية والثقافية الكبرى بين مكونات المجتمع التركي، وما تعكسه شخصياته المتباعدة ثقافيا من فروق حادة وانقسامات عمودية في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان.
وتدور قصة العمل، الذي جاء في ثماني حلقات، حول شخصيتي عاملة تنظيف محجبة تقيم في إحدى الضواحي النائية في إسطنبول، واختصاصية نفسية برجوازية تعيش حياة مترفة وتمضي إجازاتها في الخارج وتبدي عداء شديدا للمحافظين.
وأثار هذا العمل الذي تبثه “نتفليكس” للجمهور العالمي باسم “إتوس”، ويحمل توقيع المخرج والكاتب بيركون أويا، اهتماما كبيرا حول العالم، إذ يتناول سيطرة المعتقدات الدينية على عقول البسطاء، ويصور مجتمعين متناقضين، ويكشف عن وجه مختلف لمدينة إسطنبول بعيداً عن الأماكن السياحية وأماكن الترفيه التي اعتاد المشاهد عليها.
هوة عميقة

دفنه كايالار تلعب دور بيري وهي اختصاصية نفسية برجوازية تبدي عداء شديدا للمحافظين
ينتقل المسلسل بين إسطنبول الحديثة، وضواحيها الفقيرة، لينقل الجانب الآخر البائس من هذه المدينة الساحرة، ويقارن بطريقة غير مباشرة بين المجتمعين الريفي المتدين، والعلماني المدني، عبر شخصيات نسائية مختلفة الثقافات والتعليم والبيئة.
ويقول المؤرخ في جامعة إسطنبول التقنية، دوغان غوربينار، إن “المسلسل نجح في إيجاد توازن بين الإنتاج الشعبي ومستلزمات العمل العميق”.
ويستند نجاح المسلسل الذي بدأ عرضه أواسط نوفمبر، في جزء كبير منه إلى موهبة الممثلة أويكو كارايل التي تجسد شخصية مريم، وهي عاملة تنظيف شابة تعيش تحت رحمة أخيها المستبد وتعاليم المرشد الروحي في الحي الذي تقطنه.
وتستمر الحال على هذا النحو إلى أن تلتقي مريم الاختصاصية النفسية بيري (دفنه كايالار) التي تجسّد النقيض لها، إذ أنها متحدرة من عائلة ميسورة وتعيش حياة بعيدة تماما عن التديّن كما أنها تحمل إجازات علمية عدة وتجاهر بآرائها المناهضة للمنحى المحافظ الذي تسلكه تركيا.
ويعكس هذا التناقض بين الشخصيات التعقيد والاختلاف العميق الذي يشوب العلاقات البشرية التي تحكمها الفوارق الطبقية والثقافية، في بلد تطغى عليه التناقضات.
ويقدّم العمل أيضا شخصية شيخ القرية الذي لا يعتبر فقط مرجعاً دينياً، يحتكم إليه سكانها بأكملهم، بل إن حياتهم تسير وفق ما يحلله ويحرّمه، إلا أنه يصطدم بابنته “خير النساء” التي تقرر في آخر المسلسل مواجة والدها بأنها مثلية الجنس ولا تريد ارتداء الحجاب، لأنها غير مقتنعة به وأجبرت على ارتدائه فقط لأنها ابنة إمام المسجد.
معالجة محدودة للواقع
أثار المسلسل جدلا واسعا في تركيا بعد البدء بعرضه، خصوصا لكونه يقارب مسائل حساسة في بلد تظهر استطلاعات للرأي تعمق الهوة الاجتماعية والاقتصادية فيه على مر السنوات الأخيرة.
وفي دراسة لمجموعة “جرمان مارشال فاند” الأميركية نشرت الشهر الماضي، قال 75 في المئة من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع إنهم يعارضون زواج أولادهم من أشخاص ينتمون إلى حزب سياسي “شديد البعد” عن اقتناعاتهم.
وأوضحت الممثلة التي تؤدي دور مريم، وهي شابة غير محجبة في حياتها اليومية، أنها تشعر بأن هذه الشخصية تشبهها.
وقالت الممثلة أويكو كارايل لوسائل إعلام تركية في نوفمبر، إن مريم “تشعر بأنها تعيش في دوامة. لكن هل الذنب ذنبها؟ كلا، السبب هو الحياة والبيئة الاجتماعية التي تخنقها وتدفعها إلى إيجاد متنفس بطريقتها الساذجة”.
وقد بُنيت تركيا التي تعدّ 83 مليون نسمة، بعد الحرب العالمية الأولى على الرغبة في إعادة تشكيل الأمة على أساس هوية فريدة بعيدا عن الطابع التعددي للإمبراطورية العثمانية التي انبثقت منها.
لكن في الواقع، يضم هذا البلد الذي يربط أوروبا وآسيا، أطيافا متنوعة متباعدة في العقيدة ونمط الحياة، بين قوميين أتراك وآخرين من الأقلية الكردية، أو سكان مدن على الساحل الغربي يعيشون نمط حياة غربيا في مقابل آخرين يلتزمون بأسلوب عيش محافظ أكثر، أو بين إسلاميين وعلمانيين.
وقدّم المسلسل نماذج لنساء ناجحات في الظاهر، لكنهن يعانين الضياع النفسي والفراغ العاطفي، ويحملن معهن تاريخا مكتوما وطويلا من الصدمات العائلية.
ويتجلّى ذلك في التباعد بين مريم والاختصاصية النفسية في طريقة تعبير كلّ منهما والتي لا تعكس مستواهما التعليمي وانتماءهما الطبقي فحسب، بل تكشف أيضا أمورا أكثر عمقا متصلة على سبيل المثال بعلاقة كل منهما بالإسلام وحتى نتائج النظام التعليمي المتبع في تركيا.
ففي مقابل التديّن الواضح لدى مريم، تعكس شخصية الاختصاصية النفسية، بيري، الأفكار النمطية المتوارثة لدى بعض العائلات التركية، إذ تقول لوالدتها في أحد المشاهد إنها تنظر إلى النساء المحجبات على أنهن أشبه بـ”وحوش”.
وانتقد عدد من الأتراك المسلسل وتحديدا ما اعتبروه أسلوبا تسطيحيا يقوم على إجراء تعارض مستهلك بين المرأة البرجوازية العلمانية وشخصية الفتاة الملتزمة دينيا وغير المثقفة.
وتقول زينب شريف أوغلو دانيس العضو في “جمعية النساء التركيات والديمقراطية” التي تديرها ابنة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إن بعض النساء المحجبات “طرحن تساؤلا مشروعا عن سبب تهميشهن”.
وتشير إلى أن المسلسل كان يجب أن “يتجاوز البديهيات” في تمثيله الانقسام بين النساء التقليديات والمعاصرات، مقرة في الوقت عينه بأن المسلسلات التلفزيونية غير قادرة على عرض “نظرة شاملة” للوضع في البلاد الذي يغاير تماما الصورة المثالية التي تروجها له مسلسلات سابقة.