الدولة العميقة لنظام البشير تتحرك لاستعادة نفوذها عبر نافذة التعليم

تطوير المناهج يخرج من إطاره التربوي الضيق إلى فضاء سياسي واسع.
الثلاثاء 2021/01/05
مواجهة فكرية وتربوية وسياسية

الخرطوم - وجدت الدولة العميقة لنظام الرئيس السابق عمر البشير في أزمة تطوير المناهج التربوية وما أثارته من ردود أفعال متباينة، فرصة مواتية لإعادة لملمة أوراقها في السودان من أجل استعادة التأثير بتصدير قضايا دينية لتحريك الشارع سياسيا.

ويقول مركز تطوير المناهج في السودان إن جهوده تتركز على البعد التربوي وليس وراءها أهداف سياسية، الأمر الذي دفعه إلى الإعلان عن عقد مؤتمر، الثلاثاء، لمناقشة تطوير مناهج المرحلتين المتوسطة والثانوية تحت شعار “من أجل منهج يؤصل للقيم الإنسانية ويحتفل بالتنوع والسلام”.

وتداولت وسائل إعلام محلية، الاثنين، أنباء عن إقالة المسؤول عن التطوير، بعد أن أحدثت الحملة التي قادتها عناصر محسوبة على الإخوان في السودان جدلاً وصل إلى حد التراشق بين مثقفين وسياسيين، ودخل على الخط مجمع الفقه الإسلامي الذي أفتى بحرمة تدريس كتاب التاريخ للصف السادس بسبب لوحة الفنان مايكل أنجلو (خلق آدم).

عبدالواحد إبراهيم: توجيه الاتهامات إلى القراي يبرهن على أن المحرك سياسي
عبدالواحد إبراهيم: توجيه الاتهامات إلى القراي يبرهن على أن المحرك سياسي

وخرجت ثورة التطوير التي يقودها مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي، عمر القراي، عن إطارها المتخصص، بعد أن نظم محسوبون على النظام السابق مظاهرات انطلقت من بعض المساجد تنادي بتكفير الرجل وتطالب بإقالته، وتعمدت تهيئة الأجواء لتوسيع رقعة الرفض الشعبي للتعديلات.

وانتقد تحالف الحرية والتغيير الهجوم على القراي على خلفية تعديلات أجريت مؤخرًا على مادة التاريخ، واعتبر أن الأمر محاولة لخلق معركة يستفيد منها النظام القديم ومن يوصفون بـ”قوى الردة”، وإقالته من عدمها شأن تنفيذي وليس سياسيا.

وتشير العقدة الرئيسية في التعامل مع قضية المناهج إلى أن هناك مؤسسات حكومية ما زالت خاضعة لأنصار البشير، خاصة على مستوى القيادات من الصف الثاني والثالث، التي تبقى خاملة إلى أن تجد فرصة مواتية للتحرك.

وقاد ذلك إلى مواقف معادية للسلطة الانتقالية، تخرج وتعبر عن نفسها في مثل هذه المناسبات، وتتخذ من الاتجاه الديني وسيلة للوصول إلى عقول البسطاء من المواطنين.

وبدأ الهجوم على القراي منذ أن تولى منصبه قبل نحو عام، حيث حذّرت أصوات محسوبة على الحركة الإسلامية من خطورة وجوده في هذا المنصب لانتمائه إلى الحزب الجمهوري السوداني، والذي تعرض زعيمه محمود محمد طه للإعدام في عهد الرئيس الراحل جعفر النميري بتهمة الردة.

ويرى مراقبون أن الحملة المفتعلة لا تنفصل عن مساعي جماعة الإخوان لاستعادة حضورها على الساحة، مرتكزة على وجود موروثات فكرية غرسها نظام البشير لدى فئات عديدة داخل المجتمع في المناطق التي تواجدت فيها بفاعلية أثناء فترة حكمه.

ويبدو أن فشل العديد من دعوات التظاهر السابقة ضد مجلسي السيادة والوزراء في تحقيق السلام الشامل، ومضي الفترة الانتقالية دون رسم طريق سياسي واضح، جعلا قضية المناهج صيدا ثمينا يسعى أنصار البشير لتطويعه من أجل خدمة أغراضهم السياسية.

وقال المحلل السياسي عبدالواحد إبراهيم إن “توجيه الاتهامات إلى القراي، ارتكانا إلى خلفيته السياسية العلمانية، يبرهن على أن الهدف سياسي بامتياز، لأن الرجل لا يشارك مباشرة في عملية تطوير المناهج، فهناك لجان وإدارات تتولى الأمر، في ظل توجه عام تسير عليه يرتبط بالتخلص من الأفكار المتطرفة التي وضعها النظام السابق”.

وأضاف إبراهيم، في تصريح لـ”العرب”، أن “القراي وجد مساندة من القوى السياسية ووزير التربية والتعليم إلى جانب رئيس الحكومة، وقوى مستنيرة في السودان، بما فيها الحركات المسلحة، إضافة إلى دعم المعلمين. لكن تصعيد الأزمة بشكل مثير يرتبط بالشعارات التي رفعها أتباع البشير ليجذبوا إليهم المزيد من المواطنين، في قضية تعزف على وتر الدين والتربية وتتعلق بمستقبل الأبناء”.

قضية المناهج.. صيد ثمين للإخوان
قضية المناهج.. صيد ثمين للإخوان

واستنكرت لجنة معلمي السودان، المنضوية تحت لواء تجمع المهنيين، الحملة ضد القراي، وقالت “من يقفون وراءها من أنصار النظام القديم، ولديهم مصالح شخصية تتمثل في تسويق ملايين الكتب المدرسية بالمنهج القديم”.

وما زال السودان يواجه نهم الحركة الإسلامية في السيطرة على عقول الصغار وتوجيه الأمر بما يصب في صالح خدمة الأفكار المتطرفة التي عمدت هذه الحركة إلى غرسها في المجتمع طيلة السنوات الماضية، وتستخدم في ذلك بعض التربويين المحسوبين عليها، وتحاول تطويع الهيئات الدينية والاجتماعية لتصدير أفكار تدعم هذه التوجهات.

وجرى استخدام “المجمع الصوفي” -وهو إحدى أدوات نظام البشير- لاختراق الحركة الصوفية الواسعة والمتماسكة في السودان في قضية المناهج الأخيرة، حيث طالب بإقالة مدير المركز، وتم اللجوء إلى هيئات دينية تابعة لوزارة الأوقاف وتسيطر على عدد كبير من المساجد خرجت منها مظاهرات يوم الجمعة الماضي.

الفاتح وديدي: أتباع البشير يركزون على المناهج التربوية وعسكرة المجتمع
الفاتح وديدي: أتباع البشير يركزون على المناهج التربوية وعسكرة المجتمع

وقال القراي، في الرد على مجمع الفقه الإسلامي، إن “الهوس الديني لن يتوقف إلا بمواجهة التصورات الفقهية التي تقوم على إنكار حرية الاعتقاد وإنكار المساواة في المواطنة وترفض مساواة وكرامة النساء وغيرها من الفتاوى التي لا تقيم دولة مدنية”.

ويعتقد الرجل أن حذف لوحة مايكل أنجلو سيدفع المعترضين إلى موضوع آخر، مثل تكفير وزير الشؤون الدينية بسبب زيارته كنيسة، وتكفير وزير العدل بسبب تعديل بعض القوانين.

ووجدت الحكومة السودانية نفسها أمام مواجهة تربوية وفكرية وسياسية، ما يؤثر على سير خطط التطوير التي باتت بحاجة إلى أدوات مساعدة تسهّل مهمة إنزالها على الأرض دون تحويلها إلى قضية دينية سياسية.

وتجسد التباين السوداني بجلاء في أزمة تطوير المناهج، فالخطوات الأخيرة لقيت تأييدا من قوى الحرية والتغيير، ورئيس الحكومة عبدالله حمدوك، بينما وجدت امتعاضا من المكون العسكري الذي أبدى على لسان المستشار الإعلامي لرئيس مجلس السيادة، العميد الطاهر أبوهاجة، رفضه لطريقة تغيير المناهج، لكنه أكد ضرورتها لمواكبة العصر وتطور أدوات المعرفة.

وأشار الباحث السوداني، الفاتح وديدي، إلى أن عملية التطوير التي تشمل التعامل مباشرة مع أفكار الحركة الإسلامية، لا تأتي على هوى قيادات في الجيش، تحاول اختطاف المشهد السياسي وإحداث ردة على مستوى التحول الديمقراطي، وخدمة معسكر الثورة المضادة، بما قد يساعد تلك الأطراف على الإمساك بزمام الأمور مجددا.

وأكد وديدي، في تصريح لـ”العرب”، أن نفوذ أتباع البشير داخل المؤسسات التربوية لا يقتصر على المناهج التي ترسخ في عقول الطلاب التطرف والنمط الإسلامي، وإنما يسعى أيضا لعسكرة المجتمع من خلال المدارس، حيث جعلوا ارتداء الزي العسكري في المدارس إلزاميا خدمة لمصالح قوات الدفاع الشعبي دون أن تكون للأمر علاقة بالدفاع عن الدولة وحدودها.

وهدفت تلك الخطط الممنهجة إلى ترسيخ عقيدة معاداة حركات الكفاح المسلح في الهامش والتعامل معها باعتبارها أطرافا معادية للدولة، ويجب قتالها بما يصب في صالح خدمة المشروع الإسلامي.

وقد ترتب على هذه التوجهات وجود قطيعة بين المناهج التربوية والفلسفة والمنطق والعلوم الإنسانية، وما يحدث من تطوير حاليا هو محاولة للعودة إلى طبيعة السودان المنفتحة على الآخر.

1