"تكرار وزخارف".. تقنيات الإقناع لم تتغير عربيا

يشتمل كل وجه من أوجه التفاعل البشري على مستوى معين من الإقناع، الذي يعدّ وسيلة قديمة قدم الجنس البشري، ويعتمد عليه الإنسان في كل مناحي الحياة؛ السياسيون يقنعون المواطنين بضرورة انتخابهم ولو للمرة السادسة، والشركات تقنع المستهلكين بشراء منتجاتها وإن لم تكن لهم فيها فائدة. إذن الإقناع يعدّ ضروريا للمجتمع، فمن خلاله استطاع الإنسان أن يجعل مجموعات كبيرة من الناس تقبل بالعيش معا.
لندن - لم يكن لمسؤولين عرب من حرج في علاج أنفسهم بمستشفيات ألمانيا وهولندا وغيرهما من البلدان الأوروبية، ويقصد زعيم عربي الولايات المتحدة للتداوي، فقد أضحى هذا الأمر مألوفا لدى المواطن العربي المقتنع بالأمر. لكن رئيسا عربيا مصابا بفايروس كورونا بعد أن اختار ألمانيا للعلاج أطل في مقطع فيديو نشره على حسابه بأحد مواقع التواصل الاجتماعي ليشجب موقف زعيم بلد مجاور قام بنفس ما فعله هو قبل أيام قليلة، فهذا يدعو إلى الاستغراب التساؤل.
لقد بدا إطلاق المواقف السياسية عبر مواقع التواصل الاجتماعي سهلا بالنسبة إلى السياسيين، وربما أفضل، بحسب الخبراء، ففي هذه الحالة يمكن قراءة الخطاب المزخرف دون مقاطعة كما يمكن لصاحبه تجنّب أسئلة الصحافيين المباشرة، وأحيانا المحرجة، ويستطيع إيصال رسالته كاملة دون اجتزاء لإقناع الجمهور.
لكن رغم ذلك، فمقابل انهيار قيمة الإنجاز المتمثل في علاج الزعيم بمستشفى في بلد أوروبي ضجت مواقع التواصل بعبارات الإطراء الجميلة، والثناء العظيم، وكان الاحتفاء بحكمة هذا الزعيم وخطابه الرنان المقنع احتفاء منقطع النظير.
تزويقات الخطاب
تضع تزويقات الخطاب العربَ في مقدمة قائمة افتراضية لأمم الكلام، لكنهم يغيبون عن قائمة المنجزات الحضارية، وذلك لاستقرارهم في هوة كهف سحيق من تضليل الخطاب المزخرف ببواعث الغبطة اللغوية، وعلى الرغم من هذا الخلل والتخلف الحضاري، فإن من العرب من تمكن من إقناع بعض الغربيين بمواقف غريبة عن عاداتهم وقناعاتهم عبر زخرف التفوّه، لأنهم تدربوا على الوعظ والخداع الشفاهي، فيما الغربي متعوّد على الانهماك في إعداد عدّته وأدواته المخبرية، فلا يجيد صناعة الأساليب الإنشائية، وربما ينخدع بطلاوة الخطاب لبرهة، لكنه سرعان ما ينكشف أمامه السراب.
تؤكد أبحاث منشورة حول كيفية تشكيل الثقافة واللغة العربية لممارسات الاتصال الإقليمية، وخاصة الإقناع، وتشير كل من الأدبيات والنتائج إلى أن استراتيجيات الإقناع باللغة العربية تختلف في نواحٍ أساسية عن الاستراتيجيات الأميركية والأوروبية. إذ تحتوي أشكالا مختلفة من التكرار واللغة المجازية لتحقيق الغاية. وتنشأ هذه المعايير من الخصائص اللغوية للغة العربية الفصحى، والعلاقة الوثيقة بين اللغة العربية والإسلام، والتسلسل الهرمي الاجتماعي والسياسي الذي يشكل التفاعل العربي.
في الواقع، ينظر معظم الغربيين إلى اللغة العربية على أنها بلاغية بشكل مفرط وهي مصدر تلاعب عاطفي. ومع ذلك، يرى قسم كبير من الجمهور العربي أن اختيار الأناقة في الكتابة والكلام، مؤشر على إتقان الفكر، ودلالة واضحة على كونك عربيا “متعلما”.
اللغة المبهرجة المشحونة تعكس ثقافة التسلسل الهرمي المتأصلة بعمق في جميع جوانب الفكر العربي
وتتوفر الأمثال على نظرة مثيرة للاهتمام حول كيفية تعامل العرب مع لغتهم ودورها في إقناع الآخرين على غرار “لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك”، و”بوس الأيادي ضحك على اللحى” (تقبيل اليدين يخدع اللحى) و”بوس الكلب على ثمه (من فمه) وخذ غرضك منه” أو “ارفع صوتك وإلا فإن حججهم ستهزمك”.
تشير هذه الأمثال إلى أن لغة التلاعب هي مفتاح الإقناع. وعلى سبيل المثال، يرشد المثل “قبل الكلب من فمه” إلى أن “الحديث الحلو” هو المفتاح لتلبية قضاء الحوائج. ويشير قول “تقبيل الأيادي يخدع اللحى” إلى أن أساليب الإطراء والتواصل غير المباشر يمكن أن ينجح مع كبار السن وضمنيا الأشخاص من ذوي القوة الشديدة والمكانة العالية.
في الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، تقدّر الحقائق بدرجة عالية. لكن في الثقافات العربية، تبدو الحقائق وحدها باردة وغير مقنعة.
ويلاحظ العديد من الخبراء والمعلقين أن العرب يحبون لغتهم ويستخدمونها بأسلوب “مبهرج” وغزير التنميق. وتعكس هذه اللغة المبهرجة المشحونة ثقافة التسلسل الهرمي المتأصلة بعمق في جميع جوانب الفكر العربي. إذ يستخدم كبار القادة لغة جريئة لتعكس القوة والسلطة التي ترافق دورهم الاجتماعي ووضعهم المهني.
وأثبتت دراسة علمية استمرار نفس الاستراتيجيات عندما يستخدم العرب اللغة الإنجليزية مثلا. إذ يستخدم المسؤولون العرب باستمرار عند الحديث في الاجتماعات باللغة الإنجليزية، التكرار وإعادة الصياغة والتوضيح لدعم وجهات نظرهم. وعلاوة على ذلك، استخدم القادة والسياسيون لغة متفوقة وجريئة ومبهجة عند الحديث، كما أبدوا مستويات عالية من العاطفة في لغة الجسد ونبرة الصوت عند إيصال النقاط الرئيسية أو التعبير عن المخاوف.
ويؤكد الصحافي العراقي عدنان أبوزيد أن القول إن العرب أمة تبيع الكلام، صحيح إلى حد كبير، لكنها تبيعه إلى أفرادها، لأن خطابها لم يعد يلقى أذنا صاغية في الغرب، حيث أدرك بشكل واضح، أن العرب في كافة بلدانهم، فشلوا في الإنتاج الحضاري، لكنهم تفوقوا في الحديث وتأويل الكلام، بل وسرقة الاكتشافات والاختراعات ونسْبتها إلى أدبياتهم العقائدية، والتاريخية المستندة إلى الروايات الشفاهية، ولا إلى مناهج البحث العلمي، الأمر الذي يفسّر اجترارنا لغو الكلام حتى في البحوث والجامعات، وعدم القدرة على تحويل النظري إلى حيز التطبيق.
يقول الكاتب مطلق سعود المطيري في كتابه “استراتيجيات الإقناع السياسي – قراءة تحليلية لخطاب الأمير سعود الفيصل”، إنه “إذا كانت السياسة هي استمرار الحرب ولكن بطرق أخرى، أو إنها فن الممكن، وإذا كانت الدبلوماسية كما تتفق معظم التعريفات أنها فن ومهارة وممارسة وإقامة وتطوير العلاقات بين الدول وفن التعامل بين الناس والتوصل إلى اتفاقات بينهم، فإن فن الإقناع بالنسبة إلى أي سياسي أو دبلوماسي يظل محكوما بالقواعد العامة لهذين الميدانين، وليس خروجا عنهما. فالإقناع ليس استنفار المشاعر وإلهاب العواطف، بل هو فن فهم الواقع وإفهامه”.
ويؤكد عبدالوهاب صـديقي أن الخطابة أخت السياسة، وقد أرضعتا بلِبان واحد هو حيازة السلطة، فالسياسي البارع هو الذي يجيد فن الخطابة، باعتبارها فنا يكشف عن آليات الإقناع، علاوة عن أن التمكن من “سلطة الخطاب” مرتبط كثيرا بالرغبة في الحكم والسيطرة على خطاب السلطة.
وتتسم الخطابة السياسية العربية المعاصرة بالصراع البلاغي من أجل النفاذ والسيطرة، فالمسيطر على الخطاب هو الذي يفرض تسمياته، فإذا كانت بلاغة النظام تسمي الاحتجاجات الشعبية فتنة وفوضى، فإن بلاغة الجمهور تسميها ثورة وحرية، في إطار نوع من “قصف التسميات”.
وتعتمد الخطابة المعاصرة على قواعد خطابية مختلفة لإقناع المستمع بغية التأثير في رأيه من خلال التلاعب بنفسيته أو تخويفه أو ترغيبه. وتستخدم في ذلك عدة استراتيجيات على غرار استراتيجيا الترهيب بغية التأثير في شريحة من الجماهير من خلال تخويفها من المستقبل المجهول.
كما يعتمد الحاكم سياسة الترغيب المبنية أساسا على إيهام المستمَع بإمكانية تحقيق الأحلام والمستقبل السعيد في ظل الحكم الرشيد لسيادة الرئيس.
وإذا كان أسلوب الالتفات بلاغيا له وظائف تكسب الخطاب قوته الجمالية والأسلوبية، فإن الخطابة العربية الحديثة جعلته استراتيجية لإقناع الجمهور، من خلال حسن أداء، وتمكن الخطيب من ناصية اللغة، واتكائه على المجاز والاستعارات وبلاغة الافتتان، وبالتالي تنشيط المخاطب وتطريبه، وصرفه عن الاهتمام بمضمون الخطاب، إلى الاهتمام بموسيقى النص.
ولأن صناعة الرأي العام تقوم على مخاطبة العقل والعاطفة لدى الجمهور، تعمل الأنظمة الحاكمة وخاصة المستبدة في الدول العربية أحيانا على توجيه خطبة الجمعة؛ لإقناع الجمهور، وهو العنصر الهام في الخطبة، وهو جمهور عام نجد فيه الكبير والصغير، والغني والفقير، والمثقف والأمي، والعالم والجاهل، وغيرهم من أبناء المجتمع، ولا يعقل أنْ يكون هؤلاء جمعيا بالقدر نفسه من الثقافة والفهم، والخطيب البارع هو الذي يعرف جمهوره جيدا، ويعرف أنماط وعادات الناس، وكيف يخاطبهم بالموضوع واللغة المناسبة.
وقد يكون الخطيب بليغا، فصيحا، متمكنا من أدواته الخطابية، ولكنه غير مقنع بالمرة بالنسبة إلى جماهير المستمعين!! وذلك بسبب افتقاده لملكة الإقناع وأدواته وآلياته، ولا يسير على خطة واضحة لتحقيق أهداف معينة مقصودة بذاتها. والحقيقة أن الخطيب لا يمكن أن يقنع أحدا من مستمعيه، ما لم يكن هذا المستمع راغبا في الاستفادة والاقتناع.
قد درجت التنظيمات السياسية في العالم العربي، وبخاصة تلك المعارضة، على المطالبة بتسييس هذه الخطب، في مواجهة ما اجتهدت في ترسيخه الأنظمة الحاكمة على الدوام، من إبعاد خطب الجمعة عن السياسة، وإلزام الخطباء بحصرها في قضايا شعائر العبادات، والأخلاق الحميدة، وغيبيات الآخرة، وعلامات الساعة، وعذاب القبر، ونعيم الجنة، وسوى ذلك من المسائل التي لا تخلق رأيا عاما، ولا تحث الناس على التساؤل، ولا تجعلهم شركاء في التخطيط واتخاذ القرار. لكنها رغم ذلك تعمل على تسييس خطب الجمعة فعلا، في المناسبات السياسية المهمة و”توظيفها” لأغراض ليست ذات صلة بالدين! ومن تلك الخطب ما يتحدث عن ذكرى تنصيب الزعيم وفضل طاعة ولاة الأمر وغير ذلك الكثير.
الوجه الآخر
يتخيل الكثيرون أن الإقناع فن مظلم أو تضليلي، يرتبط غالبا بالسياسيين قساة القلوب وبائعي السيارات المستعملة الغشاشين. لكن الحقيقة هي أن الإقناع – أو فنه وعلمه – أساسي وضروري للتفاعل البشري مثل التواصل نفسه. إذ أن امتلاك مهارات الإقناع وإتقان فن التعاملات اليومية، من شأنه أن يحل الأمور المعقدة كافة؛ بل إنه يساعدك في بلوغ الأهداف.
وتتمثّل الخطوة الأساسية التي تُحفز على إقناع الآخرين بما تريده، في عدم اتباع الطرق والأساليب القديمة؛ التي باتت لا تُجدي نفعا؛ خاصة مع العصر الحالي الذي يعتمد على التقنيات الحديثة، والذكاء الاصطناعي. ويتخطى تأثير نماذج الإقناع الجديدة، المُعتمدة على البيانات، الشركات الناشئة إلى جهات تقليدية مثل الاستشارات السياسية ووكالات الإعلان.
واليوم، فإن معظم الناس يتعرضون لكم هائل من المعلومات بشكل يومي. وكلما عرف أولئك الذين يتحكمون في تقنيات الإقناع كل شيء عنا، وماذا نفعل، وكيف نشعر، وأين نحن، كلما كان بإمكانهم تخصيص الرسائل التي تدفعنا في اتجاه ما يرغبون في تحقيقه.
وتعرف ظاهرة “تكنولوجيا الإقناع”، في اللغة الإنجليزية بمصطلح، “Captology” (الإقناع)، وتعتمد عليها منصات التواصل الاجتماعي الكبرى، إذ يمارس موقع فيسبوك هذه التقنية من خلال ما يظهر على الصفحة الرئيسية، والذي يجعلك لا تتوقف عن القراءة أو مشاهدة الفيديوهات والصور، وفي نتفليكس ويوتيوب وضعت تقنية “التشغيل التلقائي”، إذ يقوم الموقع بتشغيل المقطع التالي أتوماتيكيا بعد ثوان من انتهاء الفيديو الذي كنت تشاهده، وكل هذه التقنيات تجعلك تقضي وقتا أطول في التصفح؛ وقد أنشئت خصيصا لإبقائك على الموقع لأكبر وقت ممكن.
وفي عام 1996؛ تحدث الباحث بجامعة “ستانفور” الأميركية، بي غاي فوغ، عن قدرة التكنولوجيا الرقمية على التأثير في المستخدمين، وكتب في سنة 2010 “لا يمكننا فعل أي شيء، سواء رغبنا في ذلك أم لا، دون الكشف عن بواطن تقنية الإقناع عبر الإنترنت”.
وقد أتاحت شبكة الإنترنت لتقنيات الإقناع الجديدة أن تذهب إلى أبعد من ذلك، لاسيما وأنه يمكن لأولئك الذين يسعون إلى التأثير على الآخرين جمع واستخدام البيانات حول الجماهير المستهدفة لإنشاء رسائل مخصصة.
وكمدير إنتاج سابق في غوغل ثم ريديت ثم بنترست، يقول تايلور أودين إنه يعلم شيئا أو اثنين عن قوة الإقناع، فالسر كما يرى ليس في امتلاك فكرة تغير العالم، بل في اتفاق الناس على نفس الفكرة.
يقول أودين “في الحقيقة إن أصحاب الرؤى مثل ستيف جوبز لم ينجحوا لأنهم فكروا في شيء مذهل وأصلي، بل لأنهم امتلكوا موهبة إقناع العديد من الناس باتباعهم في رحلتهم نحو شيء مذهل وأصلي”.
وفي حديثه على منصة “تييد” عن إصلاح نظام العدالة الجنائية، لم يفتتح محامي حقوق الإنسان بريان ستيفنسون حديثه بقائمة الشهادات التي حصل عليها أو الجوائز المذهلة التي كسبها، بل قال “إنني أقضي معظم وقتي في السجون وأماكن الاحتجاز وطوابير الإعدام، أقضي غالبية الوقت في المجتمعات ذات الدخل المنخفض وفي المشاريع والأماكن التي تضم قدرا كبيرا من اليأس”. تعد هذه المعلومات أكثر أهمية للمستمعين الذين لا يعلمون من هو أو لماذا يجب أن يثقوا بكلامه؟ العنصر الآخر المكمل لبناء المصداقية هو الصدق بالتأكيد، فكذبة واحدة أو محاولة تحريف ستكون كافية لإحداث ضرر دائم بسمعتك المهنية، وفي ذلك يقول رجل الأعمال والمستثمر الأميركي وارين بوفيت “يتطلب الأمر 20 عاما لبناء سمعة و5 دقائق لتدميرها”.