المدينة وحش الحضارة حين يبتلع سلالاته

الموت هو نفسه لم يتغيّر زادت أسبابه فحسب واليوم فإن الذين يموتون بأمراض الفقر والجوع أكثر من الذين يموتون بوباء كورونا.
الخميس 2020/12/17
شهادة وفاة لمكان صعد إلى السماء

ربما كانت الحياة خدعة. ولكن المدينة تجعلها خدعة مضاعفة بما تضفيه عليها من ركام المخادعات الأخرى. موجة الوفيات العارمة التي تجتاح هذا الكوكب هي نفسها خدعة. لأن الناس تموت في العادة. الاهتمام بنوع من الموت دون سواه لا يغيّر شيئا. أشخاص تعرفهم يتحولون إلى سطور. ثم ينقضي الأجل. أجلك معهم بالدرجة الأولى. والأيام تمضي إلى مستقر لها. إنها تمضي كما تراها وكأنها سائرة إلى الأبد. ولكنها سوف تتوقف عند لحظة ما. عدّك للأيام هو الذي سيتوقف طبعا. ولكن كل عدّ آخر سيفعل أيضا.

عش حياتك لتحب وتكره. ولكن ماذا يبقى مما أحببت أو كرهت؟ ماذا جنيت مما جنيت؟ لو كانت الأشياء والمشاعر أرقاما في معادلات، وإنها هي التي تشكل معادلة وجودك، فإنها تتوقف عن أن تكون شيئا ذا قيمة عندما ينقضي أجلك أنت. يبقى منك رقم صغير في معادلات الآخرين. ويختار بعضنا الرقم الأفضل لكي تمضي الحياة على أثره، إلا أنه رقم في معادلة أخرى، تتشكل من أرقامها الخاصة على أي حال.

ما وراء الصخب

المدن، في الأساس، جوهر المآسي الإنسانية، لأنها جمعت الوحشية البشرية وحاولت تنظيمها، وسنّت قوانين لردعها. في الغابة لا توجد خطوط للعبور. ولا إشارات مرور. ولا سيارات شرطة تجوب الطرقات بحثا عن مجرمين. (بيروت)
المدن، في الأساس، جوهر المآسي الإنسانية، لأنها جمعت الوحشية البشرية وحاولت تنظيمها، وسنّت قوانين لردعها. في الغابة لا توجد خطوط للعبور. ولا إشارات مرور. ولا سيارات شرطة تجوب الطرقات بحثا عن مجرمين. (بيروت)

بعض الحيوات المُلهمة تنتج حيواتٍ ملهمة أخرى. شيء يشبه الاكتشاف العلمي الذي يُنتج اكتشافا علميا آخر. التطور الإنساني إنما يحصل على هذا الأساس. لكن الحياة تبدو أفضل ليس بمقاييس الرفاهية وتخفيف الأعباء، ولكن بمقاييس ما ينشأ من قيم تدفع إلى السكينة والاستقرار، فينحسر السجال، وينطفئ اللغو، ويعلو الصمت. دون ذلك، فإنها جحيم.

وفي الصمت تكمن الكثير من الأسرار. إنه احتواء واستيعاب وقبول واسترخاء حيال كل ما قد يبدو ناتئا أو غريبا أو مثيرا. ولكننا نزداد عجزا عن بلوغه، إلا بالحلول القصوى، بسبب ما تراكم من أنماط الحياة المدينية، والتي أصبح الضجيج جزءا من طبيعتها.

الصخب الذي تعيشه في المدن الكبرى، سرعان ما ينحسر إذا ما قدت سيارتك إلى بلدة نائية. سوف تعثر على المزيد من القبول، وسوف تجد متسعا للتنفس. إنه متسع الصمت. قد تخدعك الطبيعة بجمالها، ولعلك تقول "إنه الهدوء"

النفوس المتحضرة، أكثر هدوءا بسبب ما يتسرّب إليها من فضائل الصمت. الصخب الذي تعيشه في المدن الكبرى، سرعان ما ينحسر إذا ما قدت سيارتك إلى بلدة نائية. سوف تعثر على المزيد من القبول، وسوف تجد متسعا للتنفس. إنه متسع الصمت. قد تخدعك الطبيعة بجمالها، ولعلك تقول “إنه الهدوء”. ولكنه الصمت على وجه الحقيقة. وكلما تبتعد أكثر، تجده أكثر. وهو وجه من وجوه الخلود لأنه الأقرب إلى الأبدية. الصمت بلا بداية ولا نهاية. وعندما تفرغ معادلاتك الرقمية كلها، فإنك تتحول إلى وجود صامت، وتصبح جزءا من صمت ممتد إلى ما لا نهاية.

إذا كان الصخب هو المقابل الطبيعي للحياة، وتفاعلاتها وانفعالاتها المختلفة، فلأنه تعبير عن أزمة. وهذه إنما كان البشر هم الذين صنعوها بأنفسهم عندما “تمدّنوا”. صنعوها لأنهم أرادوا أن يعيشوا حياتهم كل بحسب ما يطمع لا بحسب ما يحتاج. قدمت لهم المدينة كل شيء، وأخذت منهم كل شيء. والذي امتلك البيان ليقول، صار يستخدمه ليصخب، ويثور، لأن أحدا ما، داس على بطنه، فصرخ.

نحن نصخب اليوم، أكثر مما نقول. لنكشف عن أزمة تلت أخرى، حتى أصبح من الصعب للغاية أن تواجه الضجيج بغير الضجيج، العنف بغير العنف. وعندما لا يفهم الآخر ما تقول، تبدأ بالصراخ مثله. فتقلّده لتغرق في أزمته وتُنشئ أزمة أخرى لنفسك.

أحد أهم ميزات الكتابة هي أن وجهها الآخر صمت. الكلام مدينة، بينما الكتابة ريف.

قيم المدينة

الإنسانية التي تفخر بأنها حققت التقدم في العلوم والتكنولوجيا، لم تحقق المقدار نفسه من التقدم في القيم. حتى أصبح الحديث عن “قيم إنسانية” مطلبا عنيدا. (باريس)
الإنسانية التي تفخر بأنها حققت التقدم في العلوم والتكنولوجيا، لم تحقق المقدار نفسه من التقدم في القيم. حتى أصبح الحديث عن “قيم إنسانية” مطلبا عنيدا. (باريس)

المزيد يعثرون على سحرٍ في الهرب بحثا عن سبيل للعيش في قلب الطبيعة. إنها أقل وحشية بكثير من العيش في مدينة، قامت في الأساس على معترك شديد الهمجية. وتقول ذواتهم: غادرنا ما كان يحسن أن نبقى فيه. وبعضهم يبحث عن مكان آمن، ولكن أبعد ما يكون عن أن يصله بشر، تحاشيا للصخب، ولأزماته، ولوجودٍ بات في كل وجه من وجوهه تعبيرا عن أزمة.

الحياة التي تبدو عاجزة عن الصمت، ليست سوى اختناق حقيقي بما تراكم فيها من كوارث تستدعي الصراخ. التظاهرات برهان. وعندما طاف الوجع على الوجع، صار المتظاهرون يقرعون الطناجر. لم يعد الصراخ يكفي.

تحب أو تكره، تتفق أو تختلف، تملك أو لا تملك. تصارع أو لا تصارع، تكسب أو تخسر، تقول أو تصرخ، ما المعنى من هذا كله؟ ما الفرق حقا، إذا كان الأمر سوف ينتهي إلى رقم صغير، في معادلة حياة سارت في الطريق الخطأ منذ وقت بعيد؟

الإنسانية التي حققت التقدم في العلوم والتكنولوجيا، لم تحقق المقدار نفسه من التقدم في القيم. حتى أصبح الحديث عن “قيم إنسانية” مطلبا عنيدا، وكأننا لم نعش 600 ألف سنة قبل ما نرفل به الآن من نعيم “التقدم”.

من أين افترقت الطرق على “الإنسانية” لتصبح قيم الحياة الكريمة هدفا تعجز البشرية عن بلوغه؟ من أين؟ ولماذا؟ ألم نكن بشرا من قبل؟ العيش كان “صعبا” بالمقاييس الراهنة. هذا صحيح. ولكن لماذا انتهينا إلى أننا كلما حققنا المزيد من التقدم، كلما حققنا المزيد من الوحشية والقهر والقيود؟

مبتكرات التكنولوجيا الحديثة تبدو رائعة. وجعلت الحياة أسهل. إنما بالنسبة إلينا نحن، وليس لمن عاش على طول المسافة من زمن دوستويفسكي وتولستوي وأميلي برونتي وفيكتور هوغو، إلى مؤلف رواية “ألف ليلة وليلة”. لقد كانوا بشرا. ولسنا حيالهم سوى كائنات غريبة.

التنقل بين الحواضر بالعربات التي تجرها الأحصنة، كان صعبا؟ فمَنْ قال إن وصول البريد بعد ثوانٍ أفضل من وصوله بعد شهرين؟ ثم من قال إن الحضارة السومرية أو البابلية أو المصرية القديمة، أكثر تخلفا من "الحضارة" الراهنة؟

مَنْ قال إن التنقل بين الحواضر بالعربات التي تجرها الأحصنة، كان صعبا؟ مَنْ قال إن وصول البريد بعد ثوانٍ، أفضل من وصوله بعد شهرين؟ ثم من قال إن الحضارة السومرية أو البابلية أو المصرية القديمة، أكثر تخلفا من “الحضارة” الراهنة؟ أهذه الأخيرة حضارة أصلا؟ في ماذا؟ بالقتل الجماعي؟ بالأسلحة النووية؟ بالتمييز العنصري؟ بالاستغلال الشنيع للموارد؟ بالفساد؟ بالتلوث؟ بالتغير المناخي؟ بالتوزيع العادل للفقر بين “دول الجنوب”؟ أم بتسليع البشر؟

فهل اكتسبنا مقدارا أكبر من الحرية؟ هذه كذبة. الحرية توفّيت منذ أن بدأ الإنسان يبيع قوة عمله ليعيش.

واليوم أصبح مُستعبَداً لكل شيء، بما في ذلك عبوديته للتكنولوجيا. وهذه أصبحت قيدا لا يمكن التخلص منه. ونُسعد أنفسنا بالبحث لها عن “فوائد”، كالعبد الذي يتغزل بكرم مالكه.

والموت هو نفسه الموت، من قبل ومن بعد. لم يتغير فيه إلا القليل. زادت أسبابه فحسب. واليوم، فإن الذين يموتون بأمراض الفقر والجوع، أكثر من الذين يموتون بوباء كورونا. أليست هذه قضية كانت هي التي تستحق الـ11 تريليون دولار أنفقتها المصارف المركزية لتمويل البطالة في الجزء الغني من الكرة الأرضية؟

جوائح عابرة

مبتكرات التكنولوجيا الحديثة تبدو رائعة. وجعلت الحياة أسهل، بالنسبة إلينا نحن، لا لمن عاش على طول المسافة من زمن البشر الحقيقيين. (دمشق)
مبتكرات التكنولوجيا الحديثة تبدو رائعة. وجعلت الحياة أسهل، بالنسبة إلينا نحن، لا لمن عاش على طول المسافة من زمن البشر الحقيقيين. (دمشق)

الجوائح المقيمة تكلف حيوات الملايين من البشر أكثر بكثير من الجائحة العابرة. وعلاجها ممكن. ولكنها لم تبلغ المبلغ الذي يتطلب قلقا هائلا وضجيجا أكثر هولا.

فقط عندما بلغت الحمى مدائن المدن الكبرى، صار الموتُ قصةَ القصص. فانظر إلى مَنْ يجب أن يحصل على اللقاح أولا، لتعرف كم أن تلك الحضارة حضارة “إنسانية” فعلا.

المدن، في الأساس، تحولت إلى جوهر المآسي الإنسانية، لأنها جمعت الوحشية البشرية وحاولت تنظيمها، وسنّت قوانين لردعها. في الغابة لا توجد خطوط للعبور. ولا إشارات مرور. ولا سيارات شرطة تجوب الطرقات بحثا عن مجرمين. ولئن أصبح من المستحيل أن تُكتب للمدينة شهادة وفاة، فقد ظل الموت يتسلل إليها ليخطف منها الروح.

مع ذلك، وبرغم كل ما نغرق فيه من ضجيج الأزمات واختناقات العيش غير الكريم، فلا يبقى في النهاية إلا الصمت. في الموت تبلغ الأشياء قيمتها الحقيقية: صفر. لتكتشف أن الحياة خدعة، وإنها صفر مخبوء، ينتظر ساعته لكي يُبلغك القول الأخير.

12