معاناة الليبيين أمام المصارف طويلة كطابور لا ينتهي

طرابلس – عند سؤال الليبيين عن مواقف استثنائية تعرضوا لها بسبب أزمة السيولة في ليبيا، يجيب أسامة طالب متهكِّما “تعرّضتُ لموقف استثنائي حين ذهبت يوما إلى البنك، وعدت ببعض المال”.
لقد اعتاد الليبيون السخرية من مشاكلهم عند استصعاب حلّها، وإجابة طالب تعكس سوء الحال، وقلة الحيلة أمام أزمة أتّمت عامها الخامس، دون حل.
ففي عام 2015 عجزت البنوك الليبية عن توفير السيولة، لتستمر إلى اليوم أزمة شح النقد التي عصفت بالاقتصاد، وتاهت وسط التهم المتبادلة بالمسؤولية بين أطراف الصراع السياسي، وتركت الشعب لمصير مجهول.
يقول محمد صالح، مدير الإعلام بمصرف الجمهورية (أكبر البنوك الليبية) “البنوك تلوم المصرف المركزي على سياسته وعدم توفيره للنقد، والمركزي يحيل اللائمة إلى مؤسسة النفط، التي تتهم من يقومون بإغلاق الحقول والموانئ”.
قبل وبعد الأزمة، يعمل أغلب الليبيين في دوائر الدولة، ويتقاضون مرتباتهم من بنوكها، واعتادوا النقد السائل في معاملاتهم. وبعد تناقص السيولة، لجأوا إلى الصكوك المصدقة والبطاقات المصرفية الإلكترونية.
مع ازدياد الزحام على الصكوك، وسوء الخدمات المصرفية وارتفاع أسعارها، وشبه انعدام النقد في البنوك، بدأت أسعار العملة الصعبة في السوق السوداء تتفاوت، وتبعاً لذلك، تفاوتت أيضا أسعار السلع والخدمات.
يستعد فتحي مسعود لجمع توقيعات ورفع دعوى قضائية على أحد البنوك، بسبب تعليق بطاقته الإلكترونية كل حسابه، وعدم إرجاع المبلغ إلى اليوم، وهذه مشكلة واجهت الكثيرين، ومع هذا، فلا مخرج إلا استخدام الخدمة الإلكترونية.
يقول مسعود “فيما ينتظر كثيرون فُتات السيولة من البنوك في طوابير قد تستمر يومين، لا زلنا نلجأ إلى البطاقات والصكوك، مع أن فرق السعر في ازدياد”.

ويضيف “الأفران ومحلات الخضار تتعامل بالنقد فقط، ولهذا أَخْتَصِرُ الأمر، وأتوجه مباشرة إلى سوق العملة، وأشتري بمرتبي الدينار نقدا، وأدفع المقابل إلكترونيا بخسارة 20 في المئة”.
الليبيون مستاؤون من تأثير الأزمة على حياتهم اليومية، مع أن بعضهم اعتاد الأمر، فكيف سيتصرّف من لم يعتد ذلك؟
الإجابة تأتي من ليبي عائد من الخارج يرفض البوح باسمه، ويريد الاطمئنان عن حساب تركه قبل سفره في أحد البنوك الخاصة، ونسي رقمه وكلمة المرور الخاصة بالموقع الإلكتروني.
قبل الانطلاق، نُصِحَ بركن السيارة بعيدا، لأن المؤسسات الليبية لا توفر عادة خدمة ركن سيارات، وتتسبب بأزمات سير.
بعد نصف ساعةِ من البحث، وجد صابر (اسم مستعار) مكانا لسيارته يبعد نصف كيلومتر عن البنك وسط طرابلس، وما إن اقترب، حتى لاح زحام المراجعين في طوابير أمام شبابيك خارجية، مع أن البنك لا يسمح بسحب أكثر من 500 دينار شهريا.
اقتَرَبَ من الباب، ومنعه شرطي من الدخول ووجّهه إلى الطوابير الخارجية، غير مكترثٍ بسؤاله “من أيّ طابور أبدأ؟” أجابه مراجع مشيرا إلى طاولة خارج المصرف، عليها آلة تصوير أوراق، ونماذج الطلبات الخاصة بالبنكمصرف.
باعه صاحب الطاولة نموذج طلب كشف حساب بسعر مضاعف، ونصحه بطابور الشباك الرابع للاستفسار عن رقم الحساب، ثم الأول لطلب كشف الحساب.
بعد ساعة، وصل صابر إلى شباك مرتفع وضيّق، أعلى سُلَّمِهِ مساحة لا تسع موطئ قدم، لكنها مكّنته من رؤية موظفة البنك وهي تتحدث عبر الهاتف، رافضةً إغلاقه، ومصرةً على التعامل مع العميل والمكالمة معاً.
شرح صابر طلبه وقدم أوراقه، وبعد انتظار، أعطته رقم حسابه، واستطاع ملء طلب كشف الحساب، وتوجه إلى طابور آخر، فالشرطي لا زال عائِقا حتى أمام المُسِنِّين، رغم أنه يسمح بدخول بعض من يبدو أنه يعرفهم، بالإضافة إلى سيدة جميلة طلب منها الانتظار، قبل أن يغمزها خفية لِتدخل.
أكثر من ساعة أخرى قضاها صابر ليتمكن من تقديم طلبه، شرط تسليم جواز السفر مع المعاملة، بحسب إجراءات البنك.
بعد هذا الجهد، لم يجد مكانا للاستراحة، فالمراجعون في العراء، دون كَراس للجلوس وظل للوقاية.

وبانت العواقب حين تجمعت سحبٌ وبدأت أولى القطرات. لم يأبه المراجعون أولا، وحينما اشتدت المطر هرع بعضهم تحت الأشجار، وآخرون إلى سيارة مراجع مركونة أمام البنك يضعون داخلها أوراقهم. قال صاحب السيارة مفتخرا “عرفتُ ميزة الوصول إلى البنك قبل الفجر”.
انقشعت السحب، وعادت الطوابير. لم يناد أحد على (أ.م) الذي ندِم على تقديم جواز سفره. ومع الوقت زاد قلقه، وراح يحدث بعض المراجعين، “لماذا يصرون على أخذ جواز السفر مع الأوراق؟ ألم أُرِهِم إياه وأُعْطِهم صورة ملونة منه مع رقمي الوطني؟”.
دفع الخوف والغضب مرافقنا إلى تجاوز الطابور ومحاولة الوصول إلى الشباك وهو يصيح “لا أريد شيئاً، أعطوني جواز سفري فقط، لا تضيعوه، أرجوكم”.
لم يمنعه المراجعون من تجاوزهم، التفت إليه أحدهم ناصحاً ” تبدو غير معتاد، لا تُضع الفرصة بعد هذا الانتظار، أُعبر إلى الطرف الآخر من الطريق بعيداً عن الزحام، واسترح على ما تَجِد، وأعِدك بالإشارة إليك حين ينادونك من الشباك”.
استمع الرجل إلى النصيحة، وتوجه إلى الطرف الآخر. دفعه التعب للجلوس على حافة الطريق المبتل. نزع كمامته وأشعل سيجارة، وعيناه لم تفارقا الشباك والرجل صاحب الوعد.
مع اقتراب نهاية الدوام، جاءت الإشارة. همَّ مسرعاً. صعد إلى الشباك. استلم جواز سفره وتأكد منه، وسأل مستغربا “أين كشف الحساب؟”.
ردّت الموظفة “لقد أعطيتنا رقم حساب خاطئ”. حاول صابر أن يشرح كيف حصل على الرقم، ولكن الشرطي سارع بإقفال الشباك وهو يقول “انتهى دوام اليوم”.