ديمقراطية تونس عالقة وسط ضياع الفرص وتبخر المكاسب

الأداء السيء المستمر للحياة السياسية والتململ الشعبي من تعطل الإصلاحات التي كان ينشدها التونسيون بعد انتفاضة أطاحت بالنظام القديم، جعلا الديمقراطية الناشئة بالبلاد بعد فشل تحقق ذلك في بقية بلدان “الربيع العربي”، عالقة بين ضياع فرص إصلاح أجهزة الدولة الرئيسية بسبب الصراعات بين الأحزاب، وتبخر المكاسب نحو استكمال مسار ترسيخ قواعد بناء الدولة المدنية بما فيها الاقتصاد.
تونس – تخلّصت تونس من نظام زين العابدين بن علي، الذي يصفه السياسيون المعارضون له وشريحة واسعة من المواطنين بأنه رئيس “دكتاتوري وكليبتوقراطي”، قبل عشر سنوات، لكن آمال الإصلاح تفقد قوة الدفع بشكل أكبر مما كان متوقعا مع دخول البلاد في متاهة من السجالات السياسية أرخت بظلالها على حياة الشعب.
حتى اليوم، غابت المظاهر الملموسة للإصلاحات المنتظرة، التي كان يمني بها التونسيون أنفسهم عبر ترسيخ ركائز جديدة للديمقراطية قائمة على أساساتها وخاصة النظام القضائي، والجهاز الأمني، فيما يبقى الاقتصاد الوهن تاريخيا، تحت سيطرة بعض المجموعات.
عندما غادر بن علي البلاد في يناير 2011 – في ظل وجود عدة روايات حول إقدامه على تلك الخطوة لم تظهر حقيقتها منذ ذلك التاريخ – بعد تظاهرة ضخمة غير مسبوقة طالبت بإسقاطه، لم يترك السلطة معه سوى عدد قليل من أفراد الأسرة والمستشارين المباشرين.
ومع مرور الوقت أعادت بعض الوجوه القديمة المنتمية إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل تدوير نفسها في المشهد السياسي، فمنها من انخرط في أحزاب ولدت بعد الانتفاضة الشعبية كنداء تونس، ومنها من اندمج علنا أو سرا مع تيار الإسلام السياسي ممثلا في حزب حركة النهضة الإسلامي، الذي يسيطر على البرلمان.
إصلاحات مؤجلة
منذ الإطاحة بنظام بن علي، تفرق أفراد عائلته في عدد من الدول وعاشوا من الثروات التي جمعوها على مدى سنوات، بعيدا عن الأضواء، ولكن مع ذلك لا تزال العديد من الإصلاحات في أجهزة الدولة مؤجلة.
ورغم أن الشرطة كانت الدعامة الأساسية للنظام، لكن “تمّ فصل 54 مسؤولا كبيرا فقط في وزارة الداخلية عام 2011″، ثم مجموعة أخرى في العام 2013، وفق ما توضح علا بن نجمة، نائبة رئيس منظمة الإصلاح الجنائي والأمني، التي قادت تحقيقات “العدالة الانتقالية”، وهي عملية فتحت خلالها كل ملفات الدكتاتورية بعد الثورة.
وتضيف بن نجمة في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية “لم يحاكم الذين فصلوا ولم يعاقبوا، فيما تطورت حياة الآخرين المهنية، ومن بينهم أولئك الملاحقين من العدالة المتخصصة في جرائم ارتكبت في عهد بن علي”، وعقب الثورة، أدين بعض الأشخاص الذين مارسوا التعذيب، وحُل جهاز أمن الدولة، الذي تشير تقارير إلى أنه اعتمد التعذيب في سجون وزارة الداخلية، وقد أعاد دستور 2014، الذي يرى مراقبون وسياسيون مثل الحزب الدستوري الحر أنه يحتاج إلى تعديلات جوهرية، وتحديد دور الشرطة بوضوح في النظام الديمقراطي.
ولقد أحيت آفة الإرهاب الميل إلى اعتماد الأسلوب الأمني وأبطأت الجهود الرامية إلى احترام حقوق المتقاضين، مع ضعف الإشراف على الإجراءات، إضافة إلى حالة الطوارئ المستمرة منذ وقوع سلسلة الهجمات في العام 2015.
وباتت بعض نقابات الشرطة التي تشكلت بعد العام 2011 أدوات للضغط السياسي مع تدخلات قوية في بعض الأحيان في المحاكم لمنع أي ملاحقات في حق القوى الأمنية.
ورغم أن التعذيب لم يعد موجودا، لم تمح الريح الديمقراطية هذه الممارسة، وبهدف ضمان عدم تكرار التجاوزات القديمة، سعت بعض الجهات إلى تأسيس لجنة صلب البرلمان تراقب عمل الشرطة وجهاز استخبارات لكن لم يتم ذلك.
وبدلا من تحسين تدريب عناصر الشرطة وظروف عملهم، ظهرت محاولات لإصدار قانون يحمي الأمنيين، لكن تم التخلي عنه في ظل رفض المجتمع المدني له.
ويرى الخبير في الشؤون السياسية سليم خرّاط أن “الأمر يتطلب شجاعة سياسية تكاد تكون انتحارية” لإصلاح قطاعي الشرطة والقضاء اللذين لديهما روابط سياسية عميقة.
وداخل الجسم القضائي الذي تم استغلاله إلى حد كبير لخدمة مصالح نظام الرئيس الراحل، فُصل أبرز القضاة، الذين كانوا يعملون في عهد بن علي، لكن لم يحصل أي شيء لمحاسبة القضاة الفاسدين.
المشكلة الأهم
جلب التغيير الحاصل في البلاد معه نفحات الحرية ووضع البلاد على سكة المسار الديمقراطي، لكن ظلت شعارات مثل “الشغل” و”الكرامة” التي رفعها المحتجون في 2011، حبرا على ورق، ولم تتحقق على أرض الواقع.
وكانت أسرة بن علي تضع يدها على 21 في المئة من اقتصاد البلاد، حسب تقرير للبنك الدولي صادر في العام 2014، وتوفي أفراد منها بينما آخرون يلاحقهم القضاء من دون التوصل حتى الآن الى جبر الضرر الذي ألحقوه بقطاعات اقتصادية واسعة وعائلات كانت ضحايا لهم.
وفي هذه الديمقراطية، التي يُنظر إليها على أنها النجاح الوحيد لما يسمى بـ”الربيع العربي”، مع دستور جديد وخمس مناسبات انتخابية توصف بـ”النزيهة” وحرية التعبير تكمن الورشة الكبرى التي لا يزال مطلوبا القيام بها، في الإصلاح الاقتصادي.
ويوضح خرّاط بالقول “جعلنا الحقوق المدنية والسياسية أولوية، لكننا أهملنا الحقوق الاقتصادية والبيئية”. ويشير إلى أن عنصرا أساسيا في المشكلة يتمثل في “رأسمالية المحسوبيات” التي تنتهجها الدولة “وتكتلات عائلية تسيطر” على أجزاء من الاقتصاد، أصبح جزءا من النقاش العام منذ سنتين.
وخلال عهد بن علي، تضخم هذا النوع من “الاقتصاد الزبائني”، الذي ولد خلال الاستعمار، وكان بموجبه يتم منح امتيازات الاستثمار لعائلة معينة، هي عائلة الرئيس الأسبق. ولا يزال هذا الاقتصاد حكرا إلى حد بعيد على المقربين من دوائر الحكم، على حساب تنمية البلاد.
ومن الأمثلة على ذلك، أن “الدولة تفرض على شركات النقل البري أن تكون لديها إما شاحنة واحدة أو أكثر من 18 شاحنة، ما يضمن للاعبين الكبار الموجودين المشاركة في السوق من دون منافسة”، وفق ما يقول لؤي الشابي، رئيس منظمة “أليرت” غير الحكومية التي أنشئت أخيرا لمكافحة هذه الآفة.
وكذلك، هناك وكيل حصري لاستيراد كل نوع من أنواع السيارات، ما يضمن عائدات دسمة لمجموعة تجارية كان يملكها لوقت طويل أحد أصهار بن علي، وقد اشترتها لاحقا عائلة مقتدرة.
وفي دليل على أن سقوط النظام لم يضع حدا للممارسات والعادات السيئة، ارتفع حجم الفساد، فقد خسرت تونس 15 مرتبة بين العامين 2010 و2017 في ترتيب منظمة ترانسبرانسي للشفافية.
وتُعقّد الحيازات المتقاطعة لعدد من التكتلات والدولة للمصارف عمليات الوصول إلى الاقتراض بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا ينتمون إلى الشبكات الموجودة.
وأبعد فرض وجود رأس مال إلزامي لا يقل عن خمسة ملايين دينار (1.5 مليون يورو)، الشركات الناشئة، التي كانت أطلقت أنظمة الدفع عبر الهواتف الذكية، علما أن قيمة رأس المال هذه أعلى من المبالغ المعتمدة في دول أخرى. وكان هذا الإجراء لصالح اللاعبين المتمرسين، وفق الشابي.
ونظام التراخيص هذا موجود من أعلى المنظومة حتى أسفلها، ما يرسخ المحسوبية التي تستبعد قطاعات كاملة من المجتمع.
ومع ذلك، فإن الركود الاجتماعي، المتمثل في التضخم وارتفاع معدلات البطالة، الذي زادته حدة التداعيات المدمرة لوباء كوفيد – 19، يقوّض الديمقراطية، حتى أنه يغذي الحنين للنظام القديم الذي كان يعنى بصورته على أنه حقق نجاحا اقتصاديا.
ومع أن الاقتصاد كان مستقرّا بالفعل خلال عهد النظام القديم، لكن تتباين الآراء حول ذلك عندما تتم المقارنة مع ما يحصل اليوم، ولذلك يحذّر رضوان أرغيز من مركز جسور للدراسات من أن هذا السياق ينطوي على خطر “التشكيك في كل ما حققناه على المستوى السياسي”.