الرقص الحديث يستدعي التاريخ الفرعوني لمساءلة الواقع

مرة أخرى يعود الفنان ومصمّم الرقص المصري وليد عوني إلى دار الأوبرا المصرية بعرضه المسرحي الجديد “إخناتون.. غبار النور” مستلهما حكاياته من التاريخ، ليعلن مع أبطال فرقته للرقص المسرحي الحديث، أنّ التعصّب كان ولا يزال المدمّر الأول للشعوب، وهو الذي يحوّل الناس، قسرا، إلى لاجئين منتشرين في الأرض، كحال من يركبون زوارق الموت في الزمن الراهن بحثا عن الأمن والحرية، ما يعني أن التاريخ والحاضر مترابطان بالضرورة.
القاهرة – يمرّ العالم العربي بالعديد من الأزمات التي يعيش على إثرها حالة من التشرذم والخلافات، فضلا عن الهجرة المستمرة للكثير من المواطنين هربا من أوضاع مزرية جعلت اللاجئين العرب مشتّتين في أنحاء الأرض.
وفي مثل هذه الأوضاع يصير التمسّك بالتاريخ والهوية طوقا للنجاة قد يمكّن الفرد من الوقوف على أرض صلدة وهو يُصارع من أجل البقاء، ويتيح للمجتمعات وقت الأزمات الارتكاز على تراث مُشرق في مواجهة الدمار.
وانطلاقا من رؤية مؤمنة بأهمية التراث الثقافي في مجابهة أوضاع إشكالية راهنة، أعاد المخرج وليد عوني وفرقته للرقص المسرحي الحديث، عرض “إخناتون.. غبار النور” على المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية في القاهرة.
وربط العرض بين زمنين، الأول: عصر الملك إخناتون الداعي الأول إلى عبادة إله واحد، هو الإله آتون، والثاني: هو الواقع العربي في ظل الثورات المُجهضة التي شهدت هجرة العديد من السوريين والليبيين واليمنيين، وغيرهم، طلبا للجوء يقيهم من الهاوية.
وفي عدد من المشاهد التعبيرية، مزج عوني بين أحوال النازحين والمهاجرين وصراع إخناتون في دعوته إلى عبادة الإله آتون الذي يرمز له بقرص الشمس، فيبدأ العرض بصوت أمواج متلاطمة ثم يُفتح الستار على الشاطئ الذي يشهد عددا من اللاجئين الحاملين لأمتعتهم والمتجهين نحو مركب يُصارع في خضم الأمواج من أجل البقاء، وينتهي بمشهد جثة ملقاة على شاطئ مجهول، ومركب يحمل اللاجئين في بحر متلاطم ويواجه وضعا قاسيا ومستقبلا مجهولا وموحشا.
تراث عريق
يروي العرض دعوة إخناتون منذ آلاف السنين، وسعيه إلى إنشاء مدينة الكمال القائمة على دين موحّد رمزه الشمس، كمصدر للطاقة والنور والحياة، تجمع بين ما هو مادي وروحي، ثم صراعه مع كهنة آمون الذين رفضوا دعوته إلى التوحيد، ما أدّى به إلى ترك القصر وبناء مدينة الشمس في تل العمارنة، إيمانا منه بفكرته ورفضا لتعدّد الآلهة الذي ساد ذلك العصر.
وسعى العرض إلى تجسيد الحالة الفكرية التي عبّر عنها إخناتون ورحلة كفاحه، دفاعا عن أهدافه ورؤاه الفلسفية والدينية، عبر توظيف الرموز الخاصة بالحضارة المصرية القديمة من خلال الديكور الممثل لمدينة تل العمارنة والأضواء التي انعكست عليه، بما يبرز النقوش الفرعونية، أو من خلال الرقص الذي حاول الارتكاز على مفردات الحركة كما تُبيّنها النقوش الفرعونية القديمة، وإن كانت بعض الرقصات لم تُعبّر بشكل فعال عن الخصوصية التاريخية في هذا العصر.
وفي المشهد الأول، يظهر إخناتون معبرا عن فردانيته وتميّزه في منتصف خشبة المسرح، مجسّدا لحضارة عريقة كان أحد رموزها، لكن سرعان ما يتبدّل المشهد بعد أن يُنزع التاج الملكي عنه ليصير جزءًا من جموع تتحرّك على أنغام موسيقى معاصرة يفقد فيها هويته، ويصبح قطعة من حالة تأزّم راهنة على شتى المستويات.
هكذا حرص الفنان وليد عوني منذ المشاهد الأولى وحتى نهاية العرض على الربط بين الماضي والحاضر بموازنة ذكية، مكّنته من اختيار الأحداث ونقاط الارتكاز في حياة الملك إخناتون، وتحقيق مقاربة مع أوضاع عربية راهنة تتّسم بالتأزم الشديد، وهو ما جعله يُغفل العديد من التفاصيل والأفكار في حياة إخناتون في مقابل اختيار ما هو ملائم لفكرة العرض.
وجاء صوت أناشيد إخناتون، وقدّمها أحمد السيد أبوموسى، في العرض لتعبّر عن أفكاره عن التوحيد بما يتماشى مع تعبيرات الجسد ومسار العرض الراقص، ما أسهم في تكثيف الحالة الشعورية لدى المُشاهد بالتعاطي مع التاريخ والحضارة والتراث المكتظ برؤى فكرية تستحق التأمل والاستدعاء. وأسهمت الموسيقى التي حملت طابعا تراثيا في المشاهد المرتكزة على حياة إخناتون وصراعاته، في تأكيد تلك الحالة بل وتعزيزها.
وبين بداية يُنزع فيها التاج الملكي عن إخناتون ليحتل اللاجئون واجهة مشهد قاس ونهاية تشير إلى أوضاع التشرذم العربية، يروي المخرج وليد عوني حياة إخناتون وصراعاته، استنادا إلى ثراء تعبيرات الرقص الحديث والتكوينات التشكيلية التي صمّمها بأجساد الراقصين، تعبيرا عن أفكاره، وعبر الثراء البصري المتحقّق من خلال توظيف شتى العناصر الفنية.
جاء البُعد التشكيلي كأحد أهم العناصر المميّزة للعرض، إذ مثّل كل مشهد لوحة تشكيلية ثريّة العناصر ومنضبطة التكوين وحاملة لدلالات بصريّة متنوّعة تتحقّق من خلال عمق المسرح الذي قدّم لوحات تشكيلية، تجمع بين الثراء اللوني الذي يعكس الحالة والكتل الموزّعة بحرفية، لتأتي اللوحات معبّرة عن الحضارة الفرعونية ومجسّدة لرموزها، كما توضحها النقوش والآثار المصرية القديمة، وتعزّز التعبير عن الحالة والفكرة باختيار الملابس والإكسسوار الفرعوني بشكل ملائم ودال ويدعم العرض المسرحي.
دمار المدينة
ينتهي العرض بهدم معبد إخناتون في منطقة تل العمارنة، وبينما يتهدّم المعبد تظهر مرايا تعكس صورة المنبطحين جراء حالة الهدم والتقويض، وهو ما مثّل رسالة رمزية أجاد العرض في التعبير عنها، فبينما تهدّمت الحضارة وتلاشت، إلّا أنها تظل مرآة في العصر الحديث، يمكن من خلالها رؤية الواقع وتحوّلاته كجزء من حركة التاريخ، والتعرّف على أنفسنا وسط النزوح والدمار والشتات.
ومن تلك الحالة استمد عنوان العرض “غبار النور” معناه وهدفه، فإخناتون الذي عاش حياته مدافعا عن فكرة الإله الواحد آتون ممثلا في “النور” بما يحمله من دلالات، انتهت حياته وتهدّم بناؤه، الذي استحال غبارا، لكنه كان غبارا من النور وما زالت ملامح النور باقية حتى وإن كانت محض غبار.
ووفق الطرح الذي قدّمه عوني، يتّضح أنه وبعد ثمانية عشر عاما، دمّرت مدينة الشمس بالكامل وتحوّلت دعوة إخناتون إلى غبار من النور، وتفكّكت العائلة وتشرّد شعبها، وهو الدمار ذاته الذي يلاحق العرب في الوقت الراهن.
المسرحية جسّدت الحالة الفكرية التي عبّر عنها إخناتون في رحلة كفاحه، دفاعا عن أهدافه ورؤاه الفلسفية والدينية
ولجأت العائلات في تل العمارنة عقب دمار مدينتهم إلى مراكب الشمس، هروبا من الخراب الذي حلّ بهم، كما يفرّ العديد من النازحين واللاجئين إلى البحار في الوقت الحالي، هربا من دمار مدنهم وطلبا للأمن في اللجوء.
وشدّد العرض على أهمية ألّا ينسى المصريون تاريخهم العريق، وألّا ينسى العرب جميعا تراثهم ويستجيبوا لدعوات متعصبة تسعى إلى التشويش على هويتهم وحضارتهم.
وقام ببطولة العرض كل من علي يسري في دور إخناتون، وشيرلي أحمد في دور الملكة نفرتيتي، ورشا الوكيل في دور الملكة تي، فضلا عن عدد من الراقصين في أدوار الأمراء والأميرات.
وتأسّست فرقة الرقص المسرحي الحديث في العام 1993 التي عمل الفنان وليد عوني كمدير فني ومخرج ومصمّم فيها، ومن أشهر أعماله “شهرزاد كورساكوف”، “صحراء شادي عبدالسلام”، “سقوط إيكاروس”، “أسرار سمرقند” و”محمود مختار ورياح الخماسين”.. بالإضافة إلى قيامه بإخراج العديد من المناسبات القومية والحفلات الدولية أهمها: افتتاح ترميم تمثال أبوالهول وافتتاح مكتبة الإسكندرية.
وحصل عوني على العديد من التكريمات منها: الوسام الياباني للفنون، ووسام الشرف برتبة فارس من الجمهورية اللبنانية ووسام الفن والأدب الفرنسي، كما سجل اسمه في الموسوعة الأميركية العالمية لفنون الرقص باعتباره أحد أهم مؤسسي حركة الرقص المعاصر في مصر والعالم العربي إلى جانب محمود رضا في الفولكلور وعبدالمنعم كامل في الباليه.
وتناولت الفرقة منذ تأسيسها العديد من الموضوعات المتعلقة بالحضارة المصرية والعربية، وقدّمت ما يزيد عن 26 عرضا فنيا، وشاركت في العديد من المهرجانات الدولية والأوبرات العالمية، وسافرت إلى معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة والصين وكوريا وأيضا إلى جميع الدول العربية وقدّمت عروضها على أكبر وأهم المسارح والأوبرات الدولية منها: أوبرا فرانكفورت، أوبرا بكين وأوبرا كوريجنانو بإيطاليا.