دييغو مارادونا "الخارق" ومسيرة نجم شغل العالم

لم يكن الأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا الذي توفي الأربعاء الماضي عن 60 عاما بسكتة قلبية نجما رياضيا “خارقا” فحسب، فهو ليس مثل بيليه أو بكنباور أو دي ستيفانو، فهؤلاء شرّفوا ملاعب كرة القدم العالمية بفنهم الرفيع وهو جاراهم في ذلك تماما، أو لأنه تفوق عليهم في احتلال العناوين العريضة على صدر الصحف، وإنما لأسباب أخرى لا يمكن وضعها دائما في خانة الإيجابيات.
بوينوس آيرس - ودّعت الأرجنتين الحزينة “الفتى الذهبي” دييغو مارادونا ودفنته في ضواحي العاصمة بوينس آيرس، بعد رحيل أسطورة كرة القدم في نهاية الثمانينات عن ستين عاما إثر سكتة قلبية. ومع حلول الظلام أقيمت مراسم الدفن بحضور عائلة بطل العالم 1986 والعديد من أصدقائه المقربين في مقبرة بيلا فيستا المحاطة بالأشجار خارج العاصمة بوينس آيرس. وقال أنطونيو أفيلا، سائق حافلة يبلغ الـ63 خارج المقبرة “اعتقدت أن دييغو خالد ولا يموت في زمننا. أشعر بحزن شديد على رجل أسعدنا كثيرا”.
وتناقض الوداع الهادئ في المقبرة مع المشاهد الصاخبة لنقله من بوينس آيرس، والتي عكست إلى حد ما حياته المليئة بالأحداث المثيرة للجدل. وأطلقت الشرطة الغازات المسيلة للدموع وبعض الرصاص المطاطي في اشتباكات مع جماهير رشقتها بالحجارة، هددت لفترة وجيزة يوم الحداد على لاعب منح البهجة لمئات الملايين من الناس في كافة أصقاع العالم.
وقد شغل مارادونا العالم بمواهبه ومشكلاته وحتما سيتذكره الجميع بأنه ذلك اللاعب الذي ربح العالم بعبقريته وخسر نفسه بسبب المخدرات وابتعد عن ملاعب كرة القدم مرغما، بعدما خدّر هذا المنشط أسلوبه وفنه ونقله من أمام مرمى كرة القدم إلى رهبة القضاة والمحاكم وأروقة المختبرات الطبية.
حلم المراهق
وُلد مارادونا في 30 أكتوبر 1960 في لانوس إحدى ضواحي بوينس آيرس الفقيرة. بدأ مسيرته مع نادي أرخنتينوس جونيورز قبل عيد ميلاده السادس عشر، ثم استهل بعدها مشواره مع منتخب بلاده عام 1977. وقال بعمر السابعة عشرة “لدي حلمان، الأول أن أشارك في كأس العالم والثاني أن أحرزها”. مرّ مارادونا الذي اختير رياضي القرن في الأرجنتين، في علاقاته مع بطولات كأس العالم بشتى المراحل بحلوها ومرّها على مدى 16 عاما.
وبدأت علاقة “الفتى الذهبي” مع الكرة الأرجنتينية في المونديال بخيبة أمل عندما تجاهله المدرب سيزار لويس مينوتي لدى اختيار تشكيلته الرسمية لمونديال عام 1978 لصغر سنه وافتقاده للخبرة. وأشار مارادونا بعد استبعاده إلى أن “اليوم الأكثر تعاسة في حياتي، عندما أعلمني مينوتي بأنه اختار لاعبا آخر مكاني عدت إلى غرفتي وأجهشت بالبكاء”. وتابع مارادونا مباريات منتخب بلاده على شاشة التلفزيون وشاهد دانيال باساريللا قائد المنتخب وماريو كمبيس هداف البطولة يقودان الأرجنتين إلى إحراز لقبها الأول وسط فرحة هستيرية في الشوارع الأرجنتينية.
لكن “إل بيبي دي أورو” (الفتى الذهبي)، كان في عداد تشكيلة مينوتي العام التالي ليقود بلاده، إنما للفوز بكأس العالم تحت 20 عاما في اليابان حيث أحرز جائزة أفضل لاعب.
وشارك في مونديال إسبانيا 1982 للمرة الأولى وكانت فرصته للتعويض عما فاته في كأس العالم السابقة. ولأن الأرجنتين كانت حاملة اللقب، فقد سلطت الأنظار عليها ونال مارادونا قسطا من الأضواء خصوصا أنه وقع عقدا للانتقال إلى برشلونة الإسباني.
مارادونا الذي اختير رياضي القرن في الأرجنتين، مرّ في علاقاته مع بطولات كأس العالم بشتى المراحل بحلوها ومرّها على مدى 16 عاما
وعلى الرغم من تسجيله هدفين، فإن حادثة طرده في المباراة ضد البرازيل في الدور الثاني بقيت عالقة في الأذهان. وبلغ الذروة عام 1986 في مونديال مكسيكو عندما قاد منتخب بلاده إلى اللقب الثاني بعد 1978. ويمكن إطلاق اسم مونديال مارادونا على كأس العالم 1986 لأن النجم الأرجنتيني طبع البطولة بأسلوبه الخاص وكان عزفه المنفرد مفتاح الفوز.
وكانت المباراة ضد إنجلترا مشهودة لأنها اتخذت طابعا سياسيا من جراء حرب المالوين بين الدولتين وقد سبقتها حرب كلامية بين المعسكرين. وانتهى الشوط الأول بالتعادل السلبي، وفي مطلع الشوط الثاني سجل مارادونا هدفا بيده في مرمى الحارس بيتر شيلتون فاحتج الإنجليز طويلا، لكن الحكم التونسي علي بن ناصر لم يكترث وأصر على احتساب الهدف. واعترف مارادونا بعد المباراة بأنه استعمل يده للتسجيل معتبرا أنها “يد الله” بحسب قوله. وبعد أربع دقائق سجل مارادونا أجمل هدف في تاريخ كؤوس العالم، إذ قام بمراوغة ستة لاعبين إنجليز، بمن فيهم الحارس قبل أن يودعها في شباكهم.
وفي مونديال إيطاليا 1990، ذرف مارادونا دمعة شهيرة بعد خسارة النهائي أمام ألمانيا الغربية. آنذاك قاد منتخب بلاده تقريبا بمفرده، قبل أن يسقط فريقه بركلة جزاء متأخرة لأندرياس بريمه. وودّع مارادونا المونديال من الباب الضيق بسبب حادثة المخدرات التي كان بطلها في مونديال الولايات المتحدة 1994.
تعملق في المباراة الأولى ضد اليونان وقاد الأرجنتين إلى فوز كبير (4-0) وسجل هدفا رائعا وخاض الدقائق التسعين بأكملها. وحافظ على مستواه في المباراة الثانية ضد نيجيريا، لكنها كانت الأخيرة له بعد ثبوت تناوله منشطات من خمس مواد ممنوعة، فسحبه الاتحاد الأرجنتيني من صفوف المنتخب قبل أن يوقفه الاتحاد الدولي 15 شهرا.
أسود أو أبيض
تميز مارادونا دوما بشخصية نافرة خلافا للأسطورة البرازيلية بيليه الدبلوماسي “أنا أسود أو أبيض، لن أكون رماديا في حياتي”. كان قصيرا (1.65 متر)، قويا وسريعا. كان أيضا شرسا ومقاتلا عنيدا رفض الخضوع، حتى عندما حاول أعتى المدافعين منعه من الوصول إلى المرمى. لكن الأهم من كل ذلك أنه كان موهوبا ومبتكرا.. بل عبقريا.
وعلى صعيد الأندية، انتقل إلى نادي القلب بوكا جونيورز في 1981 محرزا معه لقبه المحلي الوحيد. وغادر بصفقة قياسية إلى برشلونة في 1982، ومعه اكتفى بلقب الكأس المحلية في 1983. وغاب لفترة طويلة بعد اعتداء لاعب أتلتيك بلباو أندوني غويكوتشيا عليه وكسر كاحله، ما مهد لانتقاله إلى الدوري الايطالي.
كان العلامة الفارقة في تاريخ نادي نابولي الجنوبي (1984-1991). وعرف معه مجدا محليا وقاده إلى إحراز لقب الدوري في 1987 و1990، والتتويج بلقب كأس الاتحاد الأوروبي 1989. لكن مارادونا عاش حياة صاخبة خارج الملاعب. وأكد مرارا أن أصعب منافسة خاضها منذ احترافه هي التوقف عن المخدرات علما وأنه أنفق الكثير من المال للتخلص من هذه الآفة. وسافر إلى جنيف وتورونتو وإسبانيا وكوريا الجنوبية ليجد الدواء الشافي في مصحاتها، قبل أن يتعرض لنكسات طبية متلاحقة في السنوات الأخيرة.
وبكى مارادونا لحالته عندما عرف أنه لم يعد قادرا على فعل أي شيء وأسف نجم كرة القدم البرازيلي السابق بيليه للحال التي وصل إليها هذا “المسكين”، وقال “من المؤسف ألا يكون نجوم كرة القدم خاصة والرياضة عامة، مثالا للشباب والإنسانية”. وكانت لمارادونا مواجهة دائما مع الصحافيين والإعلاميين إلى حد أنه شبه حاله عندما كان يواجه ضغطا من هؤلاء بالحال التي كانت عليها الليدي ديانا أميرة ويلز التي قضت في حادث، ورأى أن “الصحافيين تخطوا حدودهم معه”.
وبعد نابولي، انتقل إلى إشبيلية الإسباني لموسم وبعده نيولز أولد بويز المحلي ثم ختم مسيرته في بوكا جونيورز. وفي العقدين الأخيرين، تحول إلى التدريب. لكن مشواره لم يكن ناجحا مع منتخب الأرجنتين (2008-2010) أو في الإمارات العربية المتحدة أو كذلك في المكسيك. وبعد مشكلاته مع المخدرات خضع لإعادة تأهيل. وبعد تركه الكوكايين، وقع في فخ الكحول، السيغار والبدانة لينتهي به الأمر في المستشفى عام 2007.
بكى مارادونا لحالته عندما عرف أنه لم يعد قادرا على فعل أي شيء
كان مدافعا شرسا عن الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو، وظهر وشم الأخير بشكل واضح على كتفه، كما كان من أنصار الزعيم الفنزويلي هوغو تشافيز. تزوج صديقته كلاوديا فيلافان عام 1984 ولهما ابنتان: دالما وجانينيا، قبل طلاقهما عام 2004. لديه ابن اسمه دييغو جونيور ولد في نابولي عام 1986، وقد اعترف بأبوته فقط في 2004.
انهالت رسائل التعزية والتكريم من جميع أنحاء العالم، إذ مارس مارادونا الكرة في أميركا الجنوبية، أوروبا وآسيا كمدرب في الإمارات العربية المتحدة. وكان أسطورة كرة القدم البرازيلية بيليه أبرز المعلقين على رحيله. وقال بطل العالم 3 مرات “سنلعب سويا في السماء ذات يوم”، علما وأن البرازيلي عانى من صعوبات صحية جمة في الآونة الأخيرة.
وبموازاة مراسم وداعه في بوينوس آيرس، خيّم الحزن على مدينة نابولي التي جاء إليها بعد رحلة قصيرة وجدلية مع برشلونة الإسباني فوضع فريقها على قمة الدوري الإيطالي. وقال فرناندو كافور (46 عاما) “كان محاربنا يوم الأحد. لم يلعب مارادونا بقدميه بل برأسه. لا أحد يسجل الأهداف مثل مارادونا”. ووصلت مسيرته إلى نهاية “منطقية” في 1991 بعد اختبار إيجابي جديد للمنشطات. وبعد اعتزاله في 1997، كانت مسيرته التدريبية مناقضة تماما لمشواره كلاعب، فلم يكن من فئة النجوم الحاصدين للألقاب على مقاعد البدلاء.
ومن جانبه قال ناصر اليماحي، رئيس مجلس إدارة نادي الفجيرة الإماراتي، إن أسطورة الكرة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا ترك “بصمة مضيئة وكبيرة في الكرة الإماراتية بشكل عام وفي نادي الفجيرة على وجه الخصوص”، بعد أن عاش معه موسما حافلا في مختلف الجوانب الرياضية.
وأضاف اليماحي في تصريحات لصحيفة “الإمارات اليوم” نشرتها الجمعة “وفاته حدث محزن لجميع الرياضيين في العالم”. وتابع “الجمهور كان يسمع عن اسم مارادونا أو يقرأ عنه في الصحف والإعلام عموما، لكنه لم يلتق به، وهو ما ساهم في حضور الجمهور من كل مكان لمشاهدة الأسطورة مارادونا حين حضر لتدريب الفجيرة”. وأضاف “كان مارادونا أسطورة من أساطير كرة القدم المميزة عالميا، وبهذه المناسبة نعزي الأسرة الرياضية في العالم وأنفسنا لرحيل نجم كبير”، وأكد أن البساطة التي كان يتمتع بها مارادونا جعلته على علاقة طيبة وجميلة مع الجميع.
بيليه ومارادونا
وضعت كرة القدم أسطورتها البرازيلية بيليه في مصاف العظماء، وفي تنافس غير قابل للحسم على لقب “الأعظم في التاريخ”، مع الساحر الآخر للمستديرة والراحل إلى مثواه الأخير مارادونا. وعلى رغم أن اللعبة الشعبية الأولى أنتجت في تاريخها الحديث مواهب فذة قادرة على المنافسة على لقب “الأعظم” لاسيما الأرجنتيني ليونيل ميسي والبرتغالي كريستيانو رونالدو، لكنّ هذين اللاعبين لم يتمكنا حتى الآن من مجاراة بيليه ومارادونا في معيار أساسي هو رفع ذهب كأس العالم. وإلى يتغيّر الحال، سيظل النجمان بيليه ومارادونا ضمن فئة مختلفة في عالم اللعبة الشعبية الأولى. وللمقارنة بين هذين النجمين فقد تم رصد أربعة أوجه أساسية لعملية المقارنة هذه.
فقد ارتدى اللاعبان القميص الرقم 10 الذي يحمل رمزية كبيرة في فرق كرة القدم: بيليه بين 1956 و1977، ومارادونا بين 1976 و1997. وغالبا ما نظر إلى دور بيليه في الملعب كـ”الرقم 9 ونصف”، مع غزارة تهديفية وصلت إلى 1281 هدفا في 1363 مباراة (بحسب إحصاءات الاتحاد الدولي للعبة “فيفا”)، وتتوزع بين فريقين دافع عن ألوانهما، أي سانتوس البرازيلي ونيويورك كوزموس الأميركي، ومنتخب “السيليساو” الذي خاض معه 92 مباراة، ولا يزال
هدافه التاريخي بواقع 77 هدفا. أما مارادونا فكان ينظر إليه أكثر كصانع ألعاب حر يراوغ المدافعين كما يشاء، وقد سجل خلال مسيرته 345 هدفا في 692 مباراة.