محمد حسني، بوعزيزي مصر يضرم النار في جسده وسط ميدان التحرير

القاهرة - في خطوة شبيهة بحادثة الشاب التونسي محمد البوعزيزي التي ألهمت احتجاجات ما بات يعرف بثورات “الربيع العربي”، اختار المصري محمد حسني ميدان التحرير الشهير بوسط القاهرة لإضرام النار في جسده.
وسعى حسني من وراء اختيار المكان إلى وصول صوته وصورته إلى فئات كثيرة من المجتمع المصري. كما نجحت مقاطع الانتحار حرقا التي بثت على مواقع التواصل الاجتماعي في أن تحمل رسائل سياسية لمن يهمهم الأمر.
وكشف الحادث عن وضع اجتماعي واقتصادي صعب ناجم عن ارتفاع معدلات الفقر، التي قفزت إلى ما يزيد عن 32.5 في المئة، بعد رفع الدعم عن سلع أساسية وزيادة أسعار الكثير منها، ناهيك عن تداعيات كورونا السلبية.
ومحمد حسني ليس سوى عينة بسيطة من معاناة الكثير من المصريين.
ويقول محمود مسعود -وهو أب لطفلين ويعمل حارس عقار- بأنه يحصل على إعانة شهرية من الحكومة، لكن راتبه لا يكفي أسرته لمدة أسبوع، وفشل في إيجاد وسيلة لتحسين دخله، واضطر إلى منع طفليه من الاستمرار في التعليم الذي لم يعد مجانيا كما كان.
وتنطبق حالة مسعود على الكثير من المصريين. ويستطيع المار في شوارع القاهرة أو غيرها من المدن ملاحظة ارتفاع مستوى الفقر من خلال زيادة أعداد المتسولين في الشوارع، وارتفاع معدل العنف في المناطق الشعبية، ما يؤكد وجود غضب من سياسات الحكومة، بعضه يمثل ضريبة طبيعية للإصلاحات الاقتصادية التي اتبعتها، وأغلبه ترتب على عجز الحكومة عن سد الفراغ الناجم عن هذه السياسات.
ووضعت الحكومة المصرية عددا من البرامج الاجتماعية لإنقاذ محدودي الدخل عبر مشروعي “تكافل وكرامة”، وغيرهما من مساعدات الطوارئ، لكن النتيجة لم تكن على قدر المطلوب، فلا يزال هناك الملايين من السكان الذين يعانون من الفقر وبلا أفق لتخفيفه.
ويشير مراقبون إلى أن هؤلاء كتلة حرجة في مصر، وهم مكمن الخطر القادم على النظام برمته، فقد بلغ الغضب ذروته بالتزامن مع ظهور جائحة كورونا وما فعلته بالاقتصاد، في ظل إخفاق الحكومة في تلبية مطالب شريحة عريضة من هذه الكتلة، التي لم تعد قادرة على تحمل تكاليف الحياة، وقد ينفد صبرها، وتتخلى عن صمتها في أي لحظة.
ونجحت الحكومة في تضييق الخناق على قوى المعارضة بأطيافها المختلفة، وتكاد البلاد تصبح بلا معارضة منظمة معلنة في الشارع، وكل العاملين في المجال السياسي -بما فيهم الأحزاب التي كانت تقف في صفوف المعارضة وخنادقها- يدورون في فلك الحكومة وتأييد تصوراتها وقراراتها.
وتكتفي المعارضة الشبابية بممارسة أنشطتها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تعد بمثابة “هايد بارك” يبدي فيه الكثيرون آراءهم ومواقفهم بالصوت والصورة، عقب سد المنافذ القانونية أمامهم لمنعهم من الخروج إلى الشارع.
ويلاحظ متابعون حدوث ارتفاع لافت في منسوب الغضب على مواقع التواصل، ولم تعد شرائح اجتماعية مختلفة تعبأ بمراقبة المحتوى من قبل الأجهزة الأمنية، وضاعفت زيادة الرفض مهمةَ متابعة المحتويات التي تتضمن انتقادات وعبارات قاسية.
ولم تجد الحكومة صعوبة في ملاحقة المعارضة بحزمة من القوانين، مثلما لم تجد صعوبة في تطويق الإرهابيين وكسر شوكتهم القوية في سيناء، لكنها تواجه مأزقا في ملاحقة ثورات الغضب المكتومة، التي يتم التنفيس عنها من خلال المنصات الإلكترونية، أو بحركات يائسة لدى البعض في الشارع.
وتؤكد نتائج استطلاعات الرأي العام التي تجريها مؤسسات رسمية في مصر، وترفع تقاريرها إلى رئيس الجمهورية مباشرة، اتساع نطاق الغضب، حيث انتقل من الاحتجاج على زيادة الأسعار وتردي الأحوال الاقتصادية إلى رفض الكثير من سياسات النظام.
وأخذت القاعدة الشعبية للنظام المصري تتآكل شعبيا، ولا تجد المشروعات القومية العملاقة التي دشنها الرئيس عبدالفتاح السيسي ومحاولاته الدؤوبة لتخفيف المعاناة عن الناس، أصداء إيجابية وسط قطاعات لا يجد بعضها قوت يومه.
ولدى هؤلاء اقتناع بأن غالبية مشروعات الطرق والجسور والمدن الجديدة وتطوير البنية التحتية تخص طبقة غنية، بينما أمام مشروعات تجديد العشوائيات التي تستهدف شرائح دنيا في المجتمع شوط لتصل إلى أغلبية هذه الشرائح التي هي على استعداد للعيش في العراء شريطة سد احتياجاتها الأساسية من مأكل ومشرب وملبس.
وعبرت مصادر حكومية عن تخوّفها من أن يؤدي تفاعل الغضب إلى إيجاد كتلة معارضة كبيرة يصعب تحديدها وكيفية التعامل معها، لأنها تضم ملايين يعانون من التدهور الاقتصادي والاجتماعي، ولا تجد الحكومة الوسائل التي تمكّنها من تخفيف المعاناة.
وقالت المصادر في تصريح لـ”العرب” إن “المعارضة المسيّسة من السهل التعاطي معها، كما أن الإرهابيين وجيوب المتطرفين تم القضاء على قوّتهم المادية والمعنوية”.
وشددت قائلة إن “الخوف يأتي من استيقاظ الفقراء والمهمشين ومضاعفة الشحن السياسي والاجتماعي ضد النظام الحاكم، بهدف استغلال الغليان الذي يعتمل تحت السطح وفوقه، خاصة أن الحكومة لا تملك بدائل عاجلة لتخفيف الألم عن المواطنين”.
ويتزايد مستوى التوظيف السياسي لهذه الحالة مع اقتراب حلول عشر سنوات على ذكرى ثورة 25 يناير -التي سقط بموجبها نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك- وفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الأميركية، واستمرار البحث عن أيقونة شعبية تخرج غضب المصريين المكتوم إلى الشارع.
وإذا كانت محاولة محمد حسني في ميدان التحرير -الشهير بميدان الثورة في مصر- أخفقت في هذه المهمة، وجرى إنقاذ الرجل، فغيره ودون تخطيط أو مؤامرة سياسية يمكن أن يقوموا بالمهمة؛ فتزايد الرفض يمكن أن يفرز أيقونات بأشكال وألوان مختلفة، ليس بالضرورة أن تكون شبيهة بتجربة البوعزيزي في تونس، أو خالد سعيد في مصر نفسها، فالمعذبون في الأرض وصلوا إلى مستوى من الشعور بالضيم مرتفع ينذر بالخطر.