التفاعل الإنساني والـ"شو الإعلامي" للمذيع لا يخدعان الجمهور

المهنية الإعلامية لا تنفصل عن العوامل الإنسانية مع الحفاظ على الحدود.
الأربعاء 2020/11/11
المشاعر العفوية تجذب اهتمام المشاهد

الصورة التقليدية للبرامج السياسية والنشرات الإخبارية راسخة في الأذهان بأنها جدية وجافة وبعيدة عن العواطف، لكنها ليست صورة صحيحة تماما، فلا يمكن فصل الإعلامي عن التفاعل الإنساني مع القضية والخبر، لكن الفارق يكمن في حدود هذا التفاعل والتعامل معه بمهنية وهو ما يستطيع المشاهد اكتشافه.

واشنطن – لم يتمالك المحلل السياسي لشبكة “سي.أن.أن” الأميركية فان جونز، نفسه، ودخل في نوبة بكاء على الهواء، لحظة إعلان فوز بايدن بانتخابات الرئاسة الأميركية السبت، في حادثة تكررت مرارا في وسائل الإعلام العالمية والعربية، بينما اختلفت وجهات النظر بشأنها بين من يعتبرها مشاعر عفوية مبررة وبين من يصر على ضرورة الالتزام بالمهنية وضبط الانفعالات على شاشة التلفزيون.

ولم يبد المحلل السياسي وهو وجه دائم على الشاشة تحفظا على انفعالاته، عندما قال “بات من السهل أن تكون والدا، هذا الصباح. ومن السهل أن تكون أبا. من السهل إخبار أطفالك أن تكون لديك شخصية أمر مهم. الحقيقة مهمة. أن تكون شخصا جيدا، أمر مهم”، وقد ساهم انفعاله في انتشار مقطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى في العالم العربي، وأصبح حديث البرامج التلفزيونية.

ويقول خبراء إعلام إن الصورة التقليدية للبرامج السياسية والنشرات الإخبارية راسخة في الأذهان بأنها جدية وجافة وبعيدة عن العواطف تتسم بالالتزام المحدد بالنص أو الرأي حول القضية والخبر لكن هذا ليس دائما صحيحا. فالمعايشة مع الأخبار لا تعني أن المذيع ومقدمي هذا النوع من البرامج يقومون بعمل آلي لا يسمح خلاله بظهور المشاعر أو الانفعال.

ويرفض البعض الطريقة التي تفرض بها القنوات الفضائية أساس القراءة الآلية على النشرة الإخبارية، فالإعلامي المتمكن من عمله يركز على طريقة الإلقاء، ويعرف أين يمكن أن تظهر التعليقات التي تتطلب الذكاء وروح الدعابة وخفة الدم. وباتت قراءة الأخبار تتطلب الإبداع، وعلى مذيع النشرة أن يكون مرنا وصوته طيعا يتفاعل مع الخبر دون مبالغة خصوصا في نقل الأخبار الإنسانية المحزنة كالموت والزلازل والحروب الأهلية أو الكوارث الطبيعية.

ويشير متابعون إلى أن المهنية الإعلامية ليست منفصلة عن العوامل الإنسانية والتأثر بها، لكن يجب أن تبقى ضمن الحدود، فهناك فرق على سبيل المثال بين المذيعة الأذربيجانية التي تأثرت بخبر تحرير مناطق من بلادها أثناء تقديمها النشرة الإخبارية، وغالبتها دموعها عند قراءة الخبر، وبين مقدم برنامج حواري يهاجم ضيفه لفظيا عند طرح رأي لا يعجب المذيع أو القناة التي تبث البرنامج، كما يحدث على القنوات التلفزيونية العربية حيث أصبحت انفعالات المذيعين وضيوف البرامج مشهدا مكررا يتخلله تهجم لفظي وحتى عنف بين الضيوف عند احتدام النقاش السياسي، تضمن في أحدها رمي الضيوف بعضهم بالكراسي، وفي آخر تراشق بالأحذية.

 عبدالحميد الصائح: مهمة المذيع ليست التعبير عن مشاعره وإنما التعبير عن الطيف العام من المشاهدين بشتى ميولهم والحياد في عرض الظاهرة
عبدالحميد الصائح: مهمة المذيع ليست التعبير عن مشاعره وإنما التعبير عن الطيف العام من المشاهدين بشتى ميولهم والحياد في عرض الظاهرة

وقال الدكتور عبدالحميد الصائح الشاعر والباحث العراقي المتخصص في علوم الإعلام، إن انفعالات الإعلاميين ومقدمي الأخبار “تتصل بشقين؛ أن يكون التصرف مقصودا أو أن يكون عفويا. فإذا كان مقصودا فهو موقف مسبق منحاز يشبه الاستغلال السيء للوظيفة، لأن مهمة المذيع ليست التعبير عن مشاعره وإنما التعبير عن الطيف العام من المشاهدين بشتى ميولهم، شرعية وقوة وجوده هو الحياد في عرض الظاهرة كي لا يستعدي شريحة من ذلك الطيف على مهمته”.

وأضاف الصائح في تصريح لـ”العرب”، “غالبا ما يفضَح هذا التصرفُ الواعي المقصود، سياسة المؤسسة التي يعمل بها المذيع وتعمّد إرسال رسائل لجهة محددة ترحب بهذا الانفعال وتشجع عليه. أمّا إذا كانَ عفويا، فهو يعبر عن نقص في أدوات مقدم البرنامج، لأن أهم أدوات التقديم الإعلامي هو الثبات والصبر وتبني الإطار العام لما يطرح، من خلال المهنية التي تقتضي الوقوف على الحياد مهما كانت ميول مقدم البرنامج الشخصية أو ما أسميه بتقمص الحياد”.

ويؤدي الانفعال العفوي إلى خروج الصحافي من كونه صحافيا يمثل الطيف العام ويتحول إلى إنسان منفعل انفعالا شخصيا للتعبير عن ذاته وهو حتى وإنْ وجد قبولا لدى مناصري انفعاله لكنه يسيء إلى مهمته التي لها ضوابط تشبه إجادة الدور في التمثيل المسرحي أو السينمائي الذي يرسم للدور حدودا لا يمكنك الخروج عنها حتى وإن اعترضتَ شخصيا وإنسانيا على فعل الشخصية التي تؤدي دورها.

واستطرد الصائح وهو شاعر وباحث في الشأن العراقي “إذا كانت الحالتان السابقتان غير مبررتين إطلاقا.. فإن هناك استثناءات تكسر هذه القيود وهو ما يُجمِع عليه الرأي العام من انتهاك حقوق إنسانية كأن يستعرض المذيع جثة طفل أو امرأة أو حالات استثنائية من القسوة المفرطة كالتعذيب والإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم التي يجد المذيع نفسه كإنسان منهارا أمامها حتى وإن كان موظفا مهنيا في موقف مفاجئ لا يُحتمل”.

وتضع الكثير من المؤسسات الإعلامية حدود وضوابط للإعلاميين لديها، مع وجود قواعد عامة وأعراف صحافية لدى جميع المؤسسات تتعلق بالتزام الإعلاميّين الممارسات الأخلاقية في إدارة الحوار الصحافي، مع حق المذيع مقاطعة النقاش مع الضيف في حالات محدّدة، مثل خروج الضيف من القضيّة محور النقاش، وشَخْصَنَة الحوار، وتوجيه اتهامات لجهات معينة أو للمذيع أو القناة، وتلفُّظه بمصطلحات غير لائقة، أو لجوء الضيف لتوجيه نوع من “البروباغندا” الإعلاميّة لصالح جهة ما، أو توضيح فكرة مهمّة أثارها الضيف ولم يُقدّم تفاصيل بشأنها.

وتحفظ الشاعر والكاتب المغربي محمد سعودي على كلمة انفعالات، واعتبرها “مسرحيات إعلامية لشد انتباه المتابع يعتمد عليها المذيع لجلب المشاهد”. وأضاف في تصريح لـ”العرب”، أن “المشاهد حين يرى هذه الانفعالات ينجذب لمتابعة البرنامج حتى النهاية حتى يكوّن موقفا تجاه القضية”.

وأشار إلى ما يدور خلف كواليس البرامج حيث “يتم وضع سيناريو قبل البث ويكون شبه إلزامي لإنجاح الحوار أو المقابلة مع الضيوف، لذلك تبتعد غالبية هذه الانفعالات عن العفوية”.

ويحسب للمذيع دائما الحفاظ على هدوئه وضبط الانفعال عند محاولة الضيف استفزازه، وعدم إظهار التحيُّز لطرف على حساب الآخر، والاعتذار عن أيّ إساءة صدرت عن الضيف على مسامع الجمهور.

18