منحوتات مضطربة تعبر عن أزمات الذات والعالم

النحت من أقدم الفنون التي أنشأها الإنسان، رافقه لقرون ومن خلاله خلد ملوكا وفلاسفة وأشخاصا مؤثرين أو أحداثا تاريخية، ولكن النحت المعاصر اليوم تحوّل إلى وسيلة تعبير تجابه التوحش التكنولوجي وتنتصب أمامه، في محاولة لحماية الإنسان من آثار البيئة التكنولوجية التي عمّقت اغتراب البشر وهددت كياناتهم.
القاهرة- لا ينفصل الإنسان عن واقعه وما يعتمل فيه من أزمات واضطرابات تؤثر عليه وعلى محيطه الخاص بأشكال مباشرة وغير مباشرة، فإن لم تكن قصدية التعبير حاضرة ومعبرة عن أزمة معيشية مُلحّة فإن لاوعي الفنان يؤثر على رؤيته الفنيّة ويجعل أعماله مُعبّرة عن واقع ضاغط، ما يجعلها تمس من يطلع عليها فتؤثر في وجدانه.
في قصر الأمير طاز، أحد الأماكن التراثيّة العبقة بالتاريخ المصري القديم بوسط القاهرة، يُقدّم حاليا الفنان العراقي علي نوري منحوتاته في معرضه المُعنون بـ”اضطرابات”، والذي تأخر موعد انطلاقه ثلاثة أشهر بسبب تفشي جائحة كورونا وما فرضته من قيود الحجر الصحي.
البساطة التعبيرية
يُعبّر علي نوري في معرضه “اضطرابات” عن حالة من التأثر الإنساني بواقع ضاغط إلى حدّ لا يمكن احتماله في معظم الأحيان، لاسيما وأن العالم أجمع والعالم العربي بشكل خاص، يقع تحت ضغط ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية لا يستطيع الإنسان التأقلم معها أو الفكاك من آثارها السلبيّة.
يُبيّن الفنان العراقي في حديثه مع “العرب”، أنه اشتغل على هذه المنحوتات لمدة ستة أشهر، وكان مشغولا بما يموج في العالم من اضطرابات وحالة عدم الاستقرار، اللتين نتجت عنهما اهتزازات نفسية لدى الإنسان في مختلف بقاع العالم، فجاء المعرض ليعكس فكرة الاضطراب بشكل أساسي من خلال حركة المنحوتات، بطريقة تُمكّن كل إنسان من أن يشعر بها ويفهمها.
في معرضه السابق الذي أقيم قبل ما يقرب من عام ونصف بعنوان “الهجرة والثبات” عبّر نوري عن أزمات ناجمة عن الهجرة من الأوطان، وبالخصوص البُلدان العربية، ويعتبر أن المعرض الحالي بشكل ما هو امتداد لذلك المعرض.
ويهدف منه مُخاطبة العالم ككل، وكتجربة قريبة منه فهو شاهد على مشكلات أصدقائه ممن سافروا إلى بلدان أوروبيّة، لكنهم في حنين دائم للعودة إلى وطنهم، وبشكل شخصي فهو يعيش تلك الحالة من الاضطراب بدرجة ما، إذ يعيش في مصر منذ ستة عشر عاما، لكن كثيرا ما يشعر بعدم استقرار وحنين إلى الوطن.
يُقدم نوري في معرضه المُقام حاليا وحتى نهاية أغسطس المُقبِل، أربعة عشر عملا نحتيا من الجرانيت الذي بات خامته المُفضّلة رغم سعيه إلى التنوع والإلمام بكل الخامات.
يقول في مستهل حديثه، “منذ أن قدِمت إلى القاهرة المشهورة بالجرانيت وأنا أعتمد عليه في أعمالي بكثافة، أحب الحجر وصرت مُتميزّا به، لكن المعرض المُقبل لي ستكون فيه المنحوتات من البرونز حرصا على التنوع”.
لا يُخطئ المشاهد لمنحوتات نوري في هذا المعرض وجود حالة من الاضطرابات المنعكسة على الأوضاع غير الطبيعية للأجساد والتي تبدو في عدد من الأعمال النحتية تجسيدا لحالة من الصراع والتأزم غير المُحتمل.
وتعكس الكُتلة النحتية حالة الاضطراب من خلال الخطوط الخارجية للعمل والتركيز على الحركة التي تعززها بعض التفاصيل الفنيّة مثل انقباض عضلات الساق وأصابع القدم وهو ما يخلق تعبيرا عن حالة الصراع والمقاومة وفي أحيان أخرى يُعبِّر عن درجة من العجز والاستسلام للأوضاع المُتأزمة.
يوضح نوري، أن أكثر ما يهمّه هو الكتلة الرئيسية، فهو لا يميل إلى التجسيد الواقعي أو التشخيص الكامل، لكنه أكثر ميلا إلى الانطباعية أوالتعبيرية التي تتيح له مساحة واسعة للتعبير دون الالتزام بالتشخيص الدقيق، لذلك يترك أجزاء من الجسم غير مُكتملة حتى تصل الفكرة من خلال وضعيات الكتلة في الفضاء ليعبر عن حالة الاضطراب الشديد من خلال التركيز على الحركة.
في خضم حالة الاضطراب تعكس المنحوتات أشكالا متباينة من الاستجابات، ما بين أقدام مُكبّلة أو غير موجودة، كذلك الأيدي المبتورة التي توحي بحالة من العجز وانعدام القدرة على المقاومة، وتأتي منحوتات أخرى لتعكس شكلا من أشكال المقاومة من خلال الأجساد المُستقيمة دقيقة التكوين التي تُثبت درجة عالية من التحمل والاعتزاز بالذات والحضارة مهما ثقُلت الأحمال.
لاوعي الفنان
رغم أن معظم المنحوتات في وضعياتها المتعددة جاءت معبرة عن حالات الاضطراب لدى الرجال بشكل أساسي، إلا أن عملين نحتيين برزت فيهما المرأة كشريك في مواجهة الاضطرابات المُحيطة بالبشرية من كل حدب وصوب.
يشير نوري لـ“العرب”، إلى أنه فكّر أن يُقدِّم نماذج نحتيّة لأطفال أيضا يعانون من تلك الحالة من الاضطراب التي لا تُفرّق بين إنسان وآخر حسب عمره أو نوعه، لكن براءة الطفولة التي ربما قد لا تجعل الطفل مُدركا بطبيعة المشكلات والهموم التي تواجه الكبار جعلته يتراجع عن ذلك، من هنا جاء هذا التعبير عن المرأة باعتبارها شريكة للرجل في مواجهة الصعاب.
ويضيف الفنان العراقي “ربما اقتصرت على منحوتتين للمرأة فقط لأنني بشكل غير واع أشعر بأن الاضطراب يؤثر على الرجل بشكل أكبر من المرأة باعتباره مسؤولا، ففي أغلب الأحيان لا تكون ثمة قصدية لكثير من الأفكار التي تظهر في الأعمال لاحقا، وبالتالي فكثير من التعبيرات تأتي دون قصدية واضحة لكنها تظل معبرة عن الشخوص المأزومة دون تجسيد لمشهدية تُقدّم الواقع المُباشر”.
وشارك علي نوري في معظم المعارض التي أُقيمت في بغداد من 1986 وحتى 2003، كما أقام عددا من المعارض الفردية، من بينها ثلاثة في القاهرة، وشارك في عدد من ملتقيات النحت الدولية.