علي بن سالم.. رسام حكايات لا تفارقها المفاجآت

بمناسبة مرور 110 سنوات على ولادته.. الرسام التونسي علي بن سالم مزيج فني من العالمية والمحلية.
الأحد 2020/06/21
رسام ذو عالم غرائبي

عام 2016 كنت في مدينة الحمامات التونسية مدعوا لحضور لقاء فني حين أخبرني الصديق الرسام سامي بن عامر بأن رضا العموري، وهو ناشط فني وصديق قديم، يرغب بلقائي. كنت قد تعرفت على العموري عام 1992 وكان يومها يدير صالة عريقة للعروض الفنية تحمل عنوان “رواق الفنون”. كان في عروضه حريصا على أن يتبنى تجارب الفنانين الطليعيين ويدافع عنها في مواجهة سلطة جماعة مدرسة تونس التي تأسست عام 1947 وأصبح أعضاؤها أشبه بالفنانين المعتمدين من قبل المؤسسة الرسمية. عن طريقه تعرفت على تجارب الفنانين نجيب بلخوجة ورضا بالطيب وعبدالرزاق الساحلي وشيئا من محمود السهيلي ورفيق الكامل.

لم أخف يومها عن العموري إعجابي بتجارب عدد من فناني “مدرسة تونس” وفي مقدمتهم الزبير التركي الذي كان يومها يمارس دورا مريبا باعتباره الفنان الأكثر حظوة في مجال تنفيذ الأعمال الفنية المطلوبة من قبل الدولة في الأماكن العامة. كانت علاقتي بالعموري تقوم على أساس حوار عميق يستمد نضارته من حرص ثنائي على تبادل وتكامل الأفكار.

مفاجأة في صرح أندلسي

التقيت صديقي القديم ذات ظهيرة في نزل “صدربعل” بالحمامات وهو صرح معماري هائل، أندلسي الطراز كان العموري يعمل مشرفا على الجانب الفني فيه. تلك وظيفة لم أفهم مضمونها في البدء. لا تتعدى علاقتي بالفنادق مفهوم المأوى المؤقت الذي يوفر لي سبل الراحة أيام السفر.

غير أن ما لفت نظري حين تجولت في أروقة النزل ذلك العدد الكبير من اللوحات الأصلية المعلقة على الجدران في الأروقة والصالات وهو ما لم أعهده في الفنادق التي سبق لي وأن زرتها أو أقمت فيها. حينها كشف لي العموري سر ما خفي علي.

رسومه بمثابة ثناء على حدث استثنائي يمده جمال خارق بطاقة روحية هي منبع كل الحكايات التي صار بن سالم يسردها بصريا بحيوية الشاب الذي يتعلم أبجديات الجسد الأنثوي كما لم يتعرف عليه من قبل

لقد كان صاحب النزل محمد العموري وهو واحد من أهم رجال السياحة في تونس يسعى إلى تكوين مجموعته الفنية الخاصة التي خطط أن يضعها في متناول زبائن فنادقه في إطار مفهومه عن السياحة الثقافية. وهو ما اطلعت عليه في ما بعد حين رأيت لوحات أصلية تزين جدران الغرف. “تلك مغامرة طائشة”، قلت لصديقي. فابتسم قائلا “ذلك نوع من الثقة وهو ما نجحنا فيه”.

رأيت يومها لوحات لبلخوجة والساحلي وبالطيب والضحاك وعبدالمجيد البكري وحسن عبد علوان والسهيلي وسواهم من الفنانين. متعة بصرية لم يكن من اليسير التعبير عنها يومها بسبب ضيق الوقت وكثافة الشحنة الجمالية. غير أنه لم يخطر في بالي أن ما كان ينتظرني في تلك الجولة هو الأهم من جهة كونه عصف بذائقتي الفنية. فحين رأيت رسوما للتونسي علي بن سالم تخليت عن جزء مهم من قناعاتي وصرت أهذي بكلام مختلف. كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى رسومه مباشرة وهي المرة الأولى التي أسمع بها باسمه وهو تقصير شخصي، إضافة إلى أني لم أكن مستعدا بسبب غرور الناقد لاستقبال مفاجأة بذلك الحجم الذي يكشف عن جهل سيكون علاجه متأخرا.

رسوم تنبعث من الأحلام

رسوم من السهل الممتنع
رسوم من السهل الممتنع

لقد رأيت ما صدمني. لوحات تمثل مشاهد لنساء في مختلف أوضاعهن التي تمتلئ حنانا وغربة وغراما وانتظارا وشهوة ورقة واستفهاما كما لو أن الخيال لم يستوف حقه بعد. لا يكفي النظر إلى تلك الرسوم لإشباع الذائقة الجمالية. شيء ما ينبغي أن يحدث ليصل بالحواس إلى ذروتها. جمع بن سالم التعبيرية بالسريالية في طراز فني لعب على أوتار المخيلة الشعبية كما لو أنه كان يسعى إلى استرضائها بطريقة صادمة.

وإذا ما عرفنا أن بن سالم، وهو عضو سابق في جماعة مدرسة تونس، قد عاش الجزء الأكبر من حياته في ستوكهولم بعد أن تزوج من امرأة سويدية، يمكننا تفكيك المشهد الملهم الذي قاده إلى أسلوب هو بمثابة جسر بين تونسيته وعالميته. فالعين لا تخطئ أبداً مصادر الإلهام الأوروبية التي يستند إليها خيال بن سالم، حيث النساء، وهن موضوعه الرئيس، يتميزن بملامح وجوههن الشمالية وشقرة شعورهن والبنية المستقيمة لأجسادهن. كانت رسومه بمثابة ثناء على حدث استثنائي يمده جمال خارق بطاقة روحية هي منبع كل الحكايات التي صار بن سالم يسردها بصريا بحيوية الشاب الذي يتعلم أبجديات الجسد الأنثوي   كما لم يتعرف عليه من قبل.

وإذا ما كانت هناك من عودة إلى جذوره التونسية فإنها تظهر من خلال ميله إلى التزويق والزخرفة والتكرار، وهي عناصر مزجها الرسام بحكاياته فكانت جزءا عضويا من الجوهر الغنائي الذي تقوم عليه بنية تلك الحكايات الشعرية.

في ذلك النهار رأيت عشرات اللوحات التي رسمها بن سالم في مختلف مراحل حياته، يعود أقدمها إلى عام 1938. ذلك ما فتح أمامي دربا جديدة قادتني إلى فهم جديد لتاريخ الرسم الحديث في تونس. فهم لا تخضع معادلاته للجدل الذي كان قائما على أساس معطيات الصراع التقليدي ما بين جماعة مدرسة تونس التي تدعو إلى الالتزام بالأسلوب الواقعي والإخلاص إلى الموضوعات المحلية، وبين تيارات الحداثة الفنية التي سعى روادها في ستينات القرن الماضي إلى الاندماج بتحولات الفن الحديث في العالم. تجربة بن سالم في سياق ذلك المنظور كانت شيئا مختلفا.

لم يقف بن سالم في المنطقة الوسطى التي تفصل بين الطرفين. لا لأنه لم يكن راغبا في الدخول في خصام مع أقطاب جماعة مدرسة تونس وقد كان عضوا فيها، بل لأن أسلوبه في الرسم كان مزيجا حرا من العالمية والمحلية، وهي وصفته الفنية التي كانت انعكاسا لطريقته في التفكير وطبيعة الحياة التي عاشها وقد تحرر من الشروط الثقافية والاجتماعية السابقة التي تبدو مثل وصفات جاهزة.

لا تخفي رسومه مرجعيتها الكامنة في الأحلام باعتبارها مصدرا لعلاقات غرائبية. ذلك ما جعل تعبيريته لا تتحاشى التماس مع طرق السرياليين في استحضار المخلوقات الأخرى كما في الأحلام، محلقة، ملغزة وممكنة باعتبارها جزءا من مشهد مألوف، يمكن استعادته مئات المرات.

ولأنه رسام حكايات مشدودة اللغة فإن عالمه الغرائبي يذكر بالليالي العربية من جهة انتقاله بخفة وسلاسة بين بعدي الواقع والوهم، فيشعر الناظر إلى رسومه كما لو أن قوة خفية تحمله على جناحيها لتحلق به في جنات خفية، نساؤها تزهرن كما النباتات التي تحيطهن وتسبحن كما الأسماك التي تعوم داخل أجسادهن الشفافة. ذلك نسيج من العلاقات لم يسبقه إليه أحد في الرسم الحديث بتونس.

كان التعرف على بن سالم حدث حياتي تلك السنة. وهو الحدث الذي علمني أن إعادة قراءة التاريخ الفني ممكنة في كل وقت. فهو الذي سبق لتونس أن احتفلت بمئوية ميلاده بطريقة متقشفة وهو الفنان الأكثر بذخا وترفا في تاريخ الفن التونسي الحديث. وهو الفنان الذي يحتاج إليه الرسامون العرب لكي يتعلموا منه عناصر التوازن بين التأثير العالمي كون الفنان ابن عصره وبين الانتماء التلقائي غير المصطنع والمنزه من التأويل العقائدي لتراث شعبه الجمالي في لحظات صفائه.

فاصلة بين عالمين

أسلوب فنيّ مميز
أسلوب فنيّ مميز

حتى بالنسبة للتونسيين لا تزال إعادة اكتشاف علي بن سالم أمرا في غاية الصعوبة لأن عالمه ينتمي إلى ما يُسمى بـ”السهل الممتنع”.

يباغتك سحرها من النظرة الأولى فتحار بلمعان يغرقك بلذة عيش تنتقل بك إلى أماكن خفية لا يمكن سوى أن تكون جزءا من حكاية في كتاب تتغير كلماته ما دام مفتوحا. وبعد ذلك يكون الوقت قد فات على وصف المفردات التي تحلق من حولك. وهي مفردات استعارها من الواقع غير أنه أكسبها طبائع خارقة.

بالنسبة لي، فإن علي بن سالم هو الظاهرة الأهم في تاريخ الرسم الحديث في تونس. يوما ما سيُنظر إلى رسومه باعتبارها لحظة الفصل بين عالمين. عالم يقع قبلها وآخر بعدها.

9