الاتحاد الأوروبي يعيد اكتشاف تونس

مع تواصل الأزمة الصحية، كان طبيعيا، بل وحتميا، أن تتجه الشركات الأوروبية إلى أقرب موقع من القارة. فالأوروبيون وفق وزير خارجية الاتحاد الأوروبي “لا يصنعون غراما واحدا من الباراسيتامول” الذي يستهلكونه.
وكشف فايروس كورونا عن مدى اعتماد أوروبا على الواردات الصينية، خاصة المنتجات الطبية. وشكلت الجائحة فرصة فريدة لتعيد الدول الأوروبية النظر في مسألة الأمن والاعتماد على الصين، وفي علاقاتها مع جيرانها، بدول البلقان وشمال أفريقيا.
وبينما تدرس دول الاتحاد كيفية تلافي الركود الاقتصادي، وتبحث عن فرص لإعادة التصنيع إلى القارة والمواقع القريبة منها، برز السؤال حول مدى استعدادها اللوجستي لنقل إمدادات ضخمة عندما تستدعي الحاجة، وحجم الأضرار التي قد يسببها الفشل في ذلك.
لم يكن اعتماد أوروبا على الصين هائلا، فقد تراوح في الماضي بين 3 و8 في المئة من الناتج الإجمالي، لكنه زاد أربعة أضعاف في السنوات التي تلت انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2004.
ووصف مفوض الصناعة في الاتحاد الأوروبي، تييري بريتون، الحد من اعتماد الاتحاد على المصنعين الآسيويين وإعادة إنشاء قاعدة تصنيع أوروبية بأنهما “الجناح المسلح” لجهود التكتل الهادفة إلى الدفاع عن السيادة الاقتصادية. وسُتعطى أولوية لقطاع الأدوية، وتكنولوجيا الطاقة الهيدروجينية.
وتقف تونس في وضع مناسب للاستفادة من هذه الاعتبارات الأوروبية، إذا أخذت حكومة البلاد بزمام المبادرة في تعزيز مصداقيتها الاقتصادية والسياسية. ووفقا لدراسة حديثة أجرتها جامعة هارفارد، تعدّ تونس من أكثر الدول الأفريقية تطورا في البنية التحتية الصناعية، وهي من ضمن أكثر 60 دولة ابتكارا في العالم، حسب بلومبرغ.
يضاف إلى ذلك مستوى التعليم الجيد، والقرب من أوروبا. والتونسيون من أكثر شعوب المنطقة انسجاما مع الأفكار الغربية الحديثة.
ومع اقتراب الذكرى السنوية الخامسة والعشرين للشراكة الأورومتوسطية، يتعيّن على الاتحاد الأوروبي أن يعيد صياغة الطريقة التي تطورت بها السياسات التي أطلِقت عام 1995. فبعد انهيار محادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية، ومخلّفات أحداث 11 سبتمبر 2001، اختطفت العملية الأمنية الأهداف التي وُضعت عام 1995. وتوجهت دول المتوسط لتبنّي الطرح الأميركي.
بالإضافة إلى مخاوفها المشروعة المتعلقة بالأمن وتدفقات المهاجرين غير الشرعيين، تحتاج أوروبا إلى صياغة مفهوم أوسع للأمن الاقتصادي، يشجع الاستثمار الخاص في قطاعين رئيسيين. يكمن الأول في تصنيع الأدوية، والثاني في تصنيع المكونات الإلكترونية. حيث نجحت أكثر من 200 شركة تعمل في تونس وتوظف أكثر من 116 ألف شخص، في تصدير ثلثي ما تصنعه إلى الاتحاد الأوروبي.
لدول الاتحاد، وخاصة منها فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، مصلحة راسخة في تحويل أعمالها إلى الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. وجدير بالذكر أن كلفة الإنتاج في تونس أقل بكثير مما هي عليه في دول الاتحاد. وستعتمد مثل هذه السياسة على القدرات الحالية في تونس، البلد الذي ترتفع فيه نسبة البطالة بين الخريجين، ويُعد قربه من أوروبا أهم مزاياه.
ويشكل قرار دول الشمال التعامل مع تونس بوصفها شريكا، وليس مجرد سوق، فرصة أمام المسؤولين لتحديث السياسات الاقتصادية في تونس ومنْحهم نفوذا أكبر من السابق. تونس مطالبة بإدخال إصلاحات جريئة على السياسة المالية، وإدارة الجمارك، والعدالة، والشفافية، والقضاء على الروتين البيروقراطي، والصعوبات اللوجستية.
لقد فشل مسار برشلونة، منذ بدايته، في الوفاء بوعوده الاقتصادية؛ لأنه، كما أشار الاقتصادي ألفريد توفياس، لم يتجاوز مجرد وضع السياسات التجارية التي كانت موجودة وقدّمها في شكل جديد.
واستفادت الصين من السلوك الاستعماري الجديد الذي اعتمده الاتحاد الأوروبي في أفريقيا، وإذا ترددت دول الاتحاد في العرض على تونس وجيرانها شراكة اقتصادية أكثر مساواة، فإن طريق الحرير الجديد سيحقق تقدما في دول المغرب العربي كما حصل في البلقان. وعندما قال جوزيف بوريل، وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، إن الاتحاد كان ساذجًا إلى حد ما في علاقاته التجارية مع الصين، كان يعرف ما يتحدث عنه.
وتسمح إعادة تركيز الاهتمام على قيمة العلاقات الاقتصادية، التي تمت صياغتها من جديد، بإعادة موازنة وجهات نظر الاتحاد الأوروبي بشأن تونس والمغرب العربي ككل، والتي كانت في السنوات الأخيرة متحيزة بسبب سيل من الدراسات التي كانت غالبا ذات قيمة أكاديمية مشكوك فيها، حول مكافحة الإسلام الراديكالي.
يمكن القول بأننا وقعنا في الفخ الأميركي. وأن تونس، مثل جيرانها، ستتطور سياسيا وفقا لأهدافها، وليس وفق مخطط بعض العواصم الأوروبية.