انتصارات تركيا التكتيكية في غرب ليبيا لا تغيّر الحسابات الاستراتيجية

في الوقت الذي دعا فيه المجتمع الدولي أطراف الصراع في ليبيا إلى هدنة إنسانية تحسبا لتداعيات جائحة كورونا، اختارت أنقرة أن تسير عكس التيار وتكثّف من جهة تدخّلاتها العسكرية الجوية، ومن جهة أخرى تحرّض الميليشيات وحكومة الوفاق التي تدعمها على خرق الهدنة في لعبة سباق مع الوقت تحسبا لأيّ تغير في الموقف الدولي الملتهي الآن عن الأزمة في ليبيا.
القاهرة - أعدت تركيا العدة مبكّرا لتغيير الأوضاع على الأرض في ليبيا. ولم يكن هذا بخاف على الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، والدول التي ترى خطورة في التسلل التركي من خلال دعم حكومة الوفاق المتحالفة مع الميليشيات. وانتهزت أنقرة فرصة انشغال المجتمع الدولي بمقاومة فايروس كورونا وضاعفت من تدفق المرتزقة والمعدات العسكرية.
ويشارك سلاح الجوّ التركي في المعارك الدائرة في محيط العاصمة الليبية وغربها بطرق مختلفة، الأمر الذي رصدته دوائر عدة، وينسب له الفضل في تغيير التوازنات نسبيا، لكنّه لا يزال تغييرا تكتيكيا، لن تسمح له دول مجاورة ليكون تحوّلا نوعيا يؤثّر على مصالحها، ولذلك متوقع رؤية فصول جديدة مباشرة أو بالوكالة، فأيّ وجود تركي منظّم ومسلّح على أرض ليبيا معناه توفير حماية دائمة للمتطرفين، وتكرار مشاهد خطيرة في الحالة السورية.
تعدّ حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج ورقة مهمّة تستند عليها تركيا في تدخلها العسكري، وكي تحدث خلخلة في هذه المعادلة أمام القوى الوطنية المناهضة لهذه المؤامرة أحد خيارين، إمّا الحشد العسكري لردع الكتائب المسلّحة والإرهابيين المدعومين من أنقرة، وهذا يحمل في جوهره مخاطر جمّة ويعني الدخول في عمليات مفتوحة في مسرح عمليات يتّسم بتبنّي أسلوب حرب العصابات القذرة ووقوع خسائر بشرية كبيرة، وهو ما يرفضه الجيش الليبي حفاظا على حياة المواطنين، لكن سيظلّ توجيه الضربات الانتقائية مستمرا.
وتلقى الجيش الليبي نصيحة إقليمية بالتقدم السريع مع انفجار أزمة كورونا وحسم معركة طرابلس، لكنّه رفض هذا الاتّجاه لمنع اتهامه بأنه استغلّ مأساة إنسانية في أعمال عسكرية.
والحلّ الثاني، نزع الشرعية الدّولية عن المجلس الرئاسي وما تمخّض عنه من تشكيل حكومة الوفاق، وهو الاتجاه الذي يميل إليه عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي والمشير خليفة حفتر، حيث طرح الأول، الأربعاء، مبادرة لتشكيل مجلس رئاسي، من رئيس ونائبين، وتشكيل حكومة وحدة وطنية على أن يكون رئيسها من غير أعضاء المجلس الرئاسي الحالي، وطالب الثاني بإسقاط شرعية اتفاق الصخيرات وما ترتّب عنه من تفاهمات سياسية، ويفوّض الشّعب الليبي من يراه من المؤسسات في إدارة المرحلة المقبلة.
حظيت المبادرتان بتأييد شعبي كبير، ما يمهّد الطريق للبناء عليهما أملا في إسقاط المجلس الرئاسي الذي تعتمد عليه تركيا لتبرير إرسال السلاح، بالتالي إحراج بعض القوى الرئيسية في المجتمع الدولي التي تتشدق بشرعية الوفاق، وتتقاعس عن التدخل استنادا إلى ذريعة الشرعية.
يعرف من أطلقوا ووقفوا خلف المبادرتين أن العالم أقلّ انشغالا بما يجري على الساحة الليبية حاليا، ففي قمّة اهتمامه بها، والذي عكسه مؤتمر برلين في يناير الماضي، لم يحقّق تقدّما ملموسا، لكن الخطوتين جاءتا ليتحمّل المجتمع الدولي تكاليف ما ستسفر عنه التدخلات التركية السافرة والتي تستوجب مواجهتها بكل السبل السياسية أولا.
الجو بديل للبحر
استبقت أنقرة التفات العالم لما تقوم به من تغيير في البيئة الليبية، وسارعت من وتيرة عمليّاتها العسكرية، ولجأت إلى سلاح الجو خوفا من تحوّل تدشين العملية الأوروبية “إيريني” إلى عملية صارمة لمراقبة تهريب المعدات العسكرية عبر السفن بين تركيا وليبيا، والتي أكّدت ألمانيا المشاركة فيها بـ300 جندي، وطائرة استطلاع بحري من نوع “بي 3 – أوريون”.
رصدت دول مجاورة طلعات مثيرة قام بها سلاح الجوّ التركي بالقرب من المياه الإقليمية الليبية يومي 17 و18 أبريل الجاري، واستخدمت طائرات للتزود بالوقود جوّا من نوع “كي سي 135”، وطائرة حرب إلكترونية من نوع “بوينج 737 بيس إيجل”، ونحو 16 مقاتلة من نوع “إف 16”، بغرض جسّ النبض، والتعرّف على ردود الفعل قبل أن تتمادى أنقرة في توسيع اللجوء لهذا السلاح، وإرسال إشارات أنّ تفاهمات أردوغان – السراج دخلت حيّز التنفيذ، ولم تعد قاصرة على التدريبات والمساعدات البرية والبحرية.
سجّلت هيئة الأركان العامة في اليونان انتهاك الطائرات التركية للأجواء حول جزيرة كريت، ووسط وجنوب بحر إيجه، ما جعل سلاح الجو اليوناني يدفع بـ11 مقاتلة من نوع “إف 16”، من قواعده في كريت، لإخراج التشكيل التركي من سماء اليونان، وهو ما رصدته أيضا مالطا.
في هذا السياق، تحركت طائرتان “سي 130” من قاعدة قونيا الجوية إلى مدينة مصراتة، لكنهما عادتا مرة أخرى لتركيا، عندما وجدتا مخاطر إذا هبطتا في مصراتة أو طرابلس.
ما يدور في ليبيا يخص أمن مصر وتونس والجزائر، فهي أكثر الدول المستهدفة من المشروع التركي، وعليها التوافق حول رؤية موحدة
تعمّدت دوائر إقليمية كشف جانب من التفاصيل الدقيقة عن تحركات سلاح الجو التركي أخيرا، وتؤكد أنها على علم بكل أهدافه التكتيكية، ولن ترهبها هذه المحاولات في ليبيا أو بالقرب منها إذا وجدت أنها تمثّل خطرا استراتيجيا على أمنها القومي.
اصطحبت المناورات الجوية بالقرب من السواحل معها خطوات أخرى على الأرض وفي الأجواء الليبية، أحدثت فارقا في قدرة الميليشيات على الاستحواذ على أماكن في غرب طرابلس، حيث تمت هندسة تحركات المرتزقة السوريين والكتائب المسلحة وتزويدهما بصواريخ جديدة، وتغطية هذه الخطوات بطائرات مسيّرة من نوع “بيرقدار” جعلت الموازين العسكرية في الغرب تميل لصالح الفريق المدعوم من تركيا.
ترغب تركيا في احتلال “الوطية” لتكون قاعدة استراتيجية لها تتساوى أهميتها مع مطار معيتيقة الدولي الذي تحوّل إلى نقطة ارتكاز أساسية لأنقرة، ومع مطار مصراتة الذي استقبل غرفة عمليات تركيا وتعرض للقصف مرارا من القوات الليبية، كذلك تفريغ ترهونة من العناصر المتمركزة فيها وتعمل بالتنسيق مع الجيش الوطني، ما عرّضها لضربات كثيفة.
تقديرات متصادمة
يحاول فريق أنقرة تحقيق تقدم وإخلاء القوات المساندة للجيش الليبي في كلّ المناطق القريبة من طرابلس، ما يجعل طموحات تركيا لا تتوقّف عند ضبط المعادلة العسكرية بشكل يسمح بميلها تماما لصالحها وفرض تسوية ترسّخ وجود حلفائها في السلطة، إذا حان وقت الحلول السياسية، أو يبقى الحال على ما هو عليه، وتتولّى وضع زبانيتها في سدة الحكم بطرابلس.
وفّرت تركيا الترتيبات اللازمة كي تتحكم الميليشيات التابعة لها في معبر راس جدير الرابط بين ليبيا وتونس، وتستخدمه أنقرة لعبور مرتزقة ومعدات عسكرية، ويمكن أن يتزايد الاعتماد على هذا المعبر، حال بدأت عملية “إيريني” تشهد تطورا في مهامها البحرية، ولم تبد تونس صرامة واضحة لضبط الحركة فيه.
تمضي تركيا في سيناريو تعزيز نفوذ المرتزقة والإرهابيين، في ظل استمرار الفراغ الدولي على المستوى السياسي، مستفيدة من تقاعس بعض القوى التي ترى في المعارك الجارية على الأرض استنزافا مرغوبا فيه لجميع الأطراف، بما يهيئ المجال لتنصيب رجالات تركيا الحقيقيين مستقبلا، لأن السيطرة على مفاصل القرار عبر أذرعها الإسلامية تؤدي إلى سيطرة أكبر في شمال أفريقيا، وهي استراتيجية تخطط لها أنقرة بعد الفراغ من مرحلة التكتيك.
ما يدور في ليبيا يخص أمن مصر وتونس والجزائر تحديدا، فهي أكثر الدول المستهدفة من المشروع التركي، والذي يضع المتشددين جزءا أساسيا فيه، وعليها التوافق حول رؤية موحدة للتعامل مع التطورات الراهنة، فمع استمرار السيولة التي يتعامل بها هؤلاء مع ليبيا وخضوع بعضهم لابتزازات أو إغراءات سيزداد الأمر صعوبة لكبح جماحهم.
المشكلة أن الدول الثلاث، بدرجات متفاوتة، ليست لديها إرادة قوية لردع التحركات التركية عسكريا. فتونس تتبنّى موقفا مرتبكا حيال أنقرة، وأصبحت مشدودة لتقديرات متناقضة، طرفاها إسلاميون منسجمون مع طروحات أنقرة، وطبقة علمانية ترى خطرا قادما من ليبيا ولا تستطيع صده. بينما الجزائر لا تزال مشغولة بهمومها الداخلية، وتخضع تقريبا للمنهج التونسي نفسه، وكلما حاولت الاقتراب وجدت كوابح كبيرة تفرمل تقدمها.
تتبقى مصر التي تشعر بقلق بالغ ممّا تقوم به تركيا، وهي أكثر الدول استهدافا ممّا يجري في ليبيا، وتؤكد وقوفها بجانب الجيش الوطني غير أنها متمسكة بسياستها السابقة بعدم الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مباشرة، وقابضة على جمر التسوية السياسية، وهو ما جعل تركيا تتوغّل في ليبيا، وتستغل الارتباكات الحاصة على الساحة الدولية.
ورغم أن الخطوات الحثيثة التي اتخذتها أنقرة حيال ليبيا تراها القاهرة تكتيكية وترمي إلى توفير مساندة سياسية لفريقها في طرابلس، وفي اللحظة التي تشعر فيها مصر أن إجراءات تركيا الحالية انحرفت وهدّدت مصالحها لن تتردّد في أداء واجبها في حدود القانون الدولي بما يتناسب مع حجم التهديدات التي يمثلها وجود عسكري لأنقرة على الأراضي الليبية.
لدى مصر العديد من الخيارات، بعضها يتعلق بتنشيط التحالف مع اليونان وقبرص بكل تبعاته العسكرية والاقتصادية، وبعضها يخصّ دولا أوروبية تبدي انزعاجا من تطور الوجود التركي في ليبيا وما يطرحه من أزمات تتعمد أنقرة تصديرها لجنوب المتوسط، علاوة على دعم العمليات التي يقوم بها الجيش الليبي. وكلها أوراق تستخدمها القاهرة قبل الإقدام على خطوة الصدام المباشر، ولن يكون مستبعدا إذا تيقنت أن التكتيك التركي أصبح استراتيجية.