لم يحدث شيء.. وشكرا

لم تعد “اليوميات” تفي بالغرض، فلا شيء البتة. وتحضرني هنا مذكرات صغيرتي التي أصبحت اليوم شابة، فكانت تكتب في دفتر يومياتها “لم يحدث شيء وشكرا”، ونحن أيضا مع كورونا في العزلة للأسبوع الخامس على التوالي “لم يحدث شيء وشكرا”.
في الأسبوع الأول اخترت عزل نفسي، وأبيت الخروج، وأردت تجنب التقاط المرض، حتى زر المصعد لا أريد لمسه، لا بالمنديل ولا بالمفتاح ولا بغيرهما، سعيدة متفائلة أثني بيني وبين نفسي على رجاحة عقلي، فأنا بذلك أخفف من احتمال المرض بيننا، أنا وزوجي وابنتي، وأستمتع بالطبخ والقراءة، وتوزيع النصائح والإرشادات والتوجيهات، ورغم أن الطقس آخاذ إلا أنها فترة وتمضي.
في الأسبوع الثاني بدأت نغمة “خليك بالبيت” وبدأت معها نغمة “قلت لكم”، وأضفت ليومياتي استقبال النكات من وسائل التواصل وإعادة توزيعها، مع المشاركة في التعليقات على صفحات لا تهمني عادة، وتوسعت دائرة الطبخ لتشمل طبخات منسية، كذلك مع غياب العاملات تمت إضافة نشاط جديد هو تنظيف المنزل. أمر غير محبذ لكن لا بد منه، لاسيما مع متعة النظر إلى ما هو نظيف، وما يحمله هذا من رقابة على كل حركة لأهل البيت، هنا وهناك، للتأكد من الحفاظ على إنجازاتي، ولا يخلو الأمر بالطبع من بعض العبارات التي تذكر بأنني نظفت هنا ومسحت هناك. لكن نصف الكأس الممتلئ يوجب تذكر أن الغروب من البلكون ساحر، والنظر إلى الشمس الحمراء وهي تختفي في البحر متعة حقيقية، ولا ننسى أن نلتقط صورا لهذا المشهد، ونشر الصور، والرد على مجاملة بالإعجاب بالصور بمجاملة أحسن منها.
في الأسبوع الثالث أصبحت العزلة إجبارية نوعا ما، وبات الخروج للضرورة فقط، وزاد على مهامي تعقيم المشتريات كافة، ومن ثم نأكل الحلوى مطعمة بالمعقم، لكن ما زلت سعيدة ومتفائلة، وألقيت على أصدقائي في فيسبوك تحية الصباح مع أغنية “بكرا بتشرق شمس العيد” لكن لا أحد أعجب بها، يبدو أن المزاج لم يعد يسمح بشيء من هذا القبيل، شاركت للمرة الأولى بصورة لإنتاجي في صفحة طبخ، وقرأت ثم قرأت، ولعبت ثم لعبت، ووسعت نشاطاتي الاجتماعية بالاطمئنان على الأصدقاء في أصقاع الأرض.
أغنية الأسبوع الرابع “يا محلى الفسحة يا عيني”، ذكرني السيد “غوغل” بصور من العام الماضي، “بيروت يا ست الدنيا يا بيروت”، الربيع والشجر زهري اللون يشق الروح، يحدث أن تحن لبلد ليس بلدك لكنك سكنته فسكنك، وتآلفت معه حتى وإن لم يألفك، ويبدو أن من تغنى بالربيع عرفه في بيروت، لكن لا بأس فالأيام قادمة، إنما الهلع بدأ يأخذ طريقه قليلا، مع عزاء للنفس بأني لست ضمن من قصدهم الله بقوله “خلق الإنسان هلوعا” فأنا ضمن الاستثناءات التي أتت في الآيات التي تلي، لكن سؤالا ظل يدور في رأسي “ماذا لو لم يخلق الإنسان على هذا الهلع؟” إذ ذاك ربما لن يسارع العلماء لإيجاد دواء أو لقاح أو حل ما.
لا بد أن السيدات في مجموعة نادي القراءة يعجبن برصانتي وقدرتي على الاستفادة من الوقت، فقد أشبعتهن في الأسبوع الخامس روابط لجامعات أتاحت كتبها للقراءة المجانية، وكورسات للتعلم عن بعد، وشهادات هنا وهناك، فيما امتلأت شاشة هاتفي بالألعاب، وأدمنت رويدا رويدا على لعبة سخيفة لا تحتاج إلى أي تفكير، أفشل وأعود لأجرب، أفشل وأعود، وهكذا.
ويحدث أن تنتابني نوبة سعال كلما خرجت إلى الشرفة، ويخطر في بالي ربما سيتصل الجيران بالمختصين الطبيين ليتخلصوا مني. هي نوبة تحسس من الغبار لا أكثر، لكن لا بد أن يتبادر شك إلى الذهن في لحظة ضعف، ماذا لو كنت مصابة؟ هل نقلت المرض لأفراد أسرتي؟ هل أحجر نفسي في الحجر؟ هل أموت؟ هل نموت جميعا؟ هل سيموت كل الناس في بيوتهم تدريجيا دونما منقذ؟ هل هي القيامة؟ لم ينشق القمر بعد، هل سمع أحدكم نفخة الصور؟ ماذا لو…؟ على أن كل هذه الهواجس كانت بلا أساس لها من الصحة ولا تليق بي، ولكسرها والعبور عنها أصبغ شعري وأحضر قائمة طعام رمضان، وأعاود القراءة، أفتح “أولاد حارتنا” وأقرأ “أين أنت؟ وكيف أنت؟ ولِمَ تبدو وكأنك لم تعد أنت؟ لولاك ما كان لنا أب أو حارة أو وقف أو أمل”.
يبدو أن الأرض تنتقم لكل المسجونين في العالم، ورغم أن الأغنية لهذا الأسبوع “ضاق خلقي يا صبي” إلا أنني قررت ترويض النفس على الاستعداد للمدى الطويل، دون شكوى ولا دلال، و”هالعالم كلها متلي” وشروط عيشي عشر نجوم، وما لنا إلا أن “نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن العمل: نربي الأمل”. لا شيء البتة.