مخاض التحول للعمل عن بعد سيغير العالم

منذ عقود كان العمل عن بعد أو من المنزل يزحف بوتيرة متسارعة، لكن أزمة الوباء الحالية حولته فجأة إلى انتقال إجباري، لا يخلو من ثمن مرحلي قاس، لكنه يعد على المدى البعيد بتغيير العالم نحو الأفضل حين يخفض من وطأة البشر على البيئة ويوزع الوظائف بطريقة عادلة ويقلص مركزية العواصم والمدن الكبرى وينعش المناطق المهمشة ويقلص الهجرة إلى المدن وبين الدول أيضا.
اختزل تفشي وباء فايروس كورونا عشر سنوات على الأقل من عمر التحول الحتمي للكثير من الوظائف إلى العمل عن بعد، الذي ستكون له انعكاسات هائلة على طبيعة الحياة في جميع أنحاء العالم.
سوف تعتمد نسبة استمرار ممارسة تلك الأعمال عن بعد على مدى استمرار إجراءات العزل الإجباري، وكلما طال أمد تلك الإجراءات تضاءلت فرص عودة تلك الأعمال إلى مراكز ومكاتب الشركات.
كما أن نظام العمل عن بعد لن يكون متاحا للكثير من الوظائف اليدوية وسيقتصر على الأعمال التي يمكن القيام بها من خلال أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الإلكترونية الأخرى.
لكن الأعمال المرتبطة بالتكنولوجيا والبرمجيات وإدارة المشاريع وسوق الخدمات والحلول المصرفية المرنة، ستشهد نموا هائلا في عدد الوظائف نتيجة هيمنة العمل عن بعد حيث تزدهر أسواق توظيف ناشئة وفرص عمل أكثر.
ثمن المرحلة الانتقالية
ستكون لتزايد العمل من المنزل تداعيات جانبية قاسية في البداية بسبب إرباك الكثير من التوازنات الاقتصادية الحالية ويحتاج لتأقلم الكثير من الأعمال وتطوير البنية التحتية الملائمة لتقديمها عن بعد.
لكن هذا التحول سيحدث آثارا هائلة على البيئة وعلى بصمة البشر الكاربونية وهياكل النشاطات الاقتصادية ووتيرة الازدحام والحركة وتوزيع السكان في المدن وسوق العمل ويفرض على مؤسسات الدول والمالية العامة تحولات كبيرة.
في المدى القصير والمتوسط سيؤدي تزايد ممارسة الأعمال إلى اختفاء الكثير من الوظائف في قطاعات النقل واللوجستيات وأسواق العقارات ونشاط المتاجر والمطاعم والمقاهي في مراكز الأعمال في قلب المدن الكبرى.
البيئة من أكبر الرابحين من تراجع حركة النقل والانبعاثات وبناء مكاتب جديدة واستهلاك الطاقة والورق والبلاستيك والأطعمة السريعة
وسيحتاج التأقلم مع الواقع الجديد وتراجع تداعياته القاسية لفترة طويلة كي يعثر الذين فقدوا وظائفهم على فرص جديدة وتستقر الانقلابات في الطلب على وسائل النقل والعقارات والمكاتب.
وسينعكس ذلك على كثافة السكان في المدن الكبرى حين لا يجد الكثيرون سببا للبقاء فيها وتحمل أسعار العقارات والإيجارات المرتفعة ويعودون إلى بلداتهم الأصلية.
سيؤثر ذلك بشكل كبير على أسعار العقارات والإيجارات في المدن الكبرى حين ينحسر الطلب وسيؤدي ذلك إلى تغييرات كبيرة فيها قد تكون قاسية قبل التأقلم مع الوضع الجديد.
انقلابات سوق العمل
في المقابل سيؤدي نمو العمل عن بعد إلى تحولات كبرى في سوق العمل وإلى دخول عهد جديد من تكافؤ الفرص بين سكان الدول، بل ويفتح المنافسة على الوظائف على نطاق عالمي.
في نظام العمل التقليدي، كانت العواصم المركزية والمدن الكبرى تحظى بنصيب الأسد من الحركة الاقتصادية، حيث تتمركز فيها مقرات المؤسسات الحكومية والشركات العملاقة التي تجذب الموظفين للإقامة والعمل فيها.
وكان ذلك يؤدي إلى حركة اقتصادية وتنمية مستمرة في تلك المراكز، في وقت تفتقر فيه المناطق الريفية وغيرها من البلدات والمدن الصغيرة النائية إلى تلك المزايا الاقتصادية.
وحين تتركز الوظائف في بقاع محددة من الدول ومعها المداخيل المرتفعة ومعدلات الاستهلاك في تلك المناطق مقابل انحدار المناطق الأخرى وسقوطها في دوامة الركود وتنحسر فيها النشاطات والخدمات ودورة الحياة الاقتصادية.
حين لا تكون هناك مداخيل كبيرة في بعض المناطق، لا تجد النشاطات الاقتصادية والمقاهي والمطاعم من يرتادها فتغلق أبوابها في تلك المناطق وتتحول البلدات الصغيرة إلى مدن ساخطة وغاضبة.
ذلك التباين الصارخ كان أحد الأسباب الرئيسية للتذمر الشعبي والاحتجاجات والتحولات السياسية في الانتخابات والاستفتاءات بين العواصم والمدن الكبرى وبين المناطق المهمشة التي تزداد فقرا.
وقد بدا ذلك في استفتاء البريطانيين على البقاء في الاتحاد الأوروبي، حيث حسم نتيجته الساخطون والغاضبون والمهمشون على حساب الطبقة الوسطى وأوساط الأعمال والمال، وقادوا البلاد إلى مصير مجهول.
الهجرة الداخلية والخارجية
في نظام العمل عن بعد لن يكون الأشخاص مضطرين إلى الانتقال إلى المدن الكبرى والعواصم بحثا عن فرص العمل، وسوف يزول شرط الموقع الجغرافي للالتحاق بالوظائف.
سيتمكن الباحث عن العمل من المنافسة على وظائف في مؤسسات وشركات بعيدة كل البعد عن مقر إقامته، وبالتالي تنتقل الفرص والوظائف إلى الناس في أماكنهم ومجتمعاتهم أيا كانت حالتها الاقتصادية، وليس العكس.
لن يقتصر ذلك على الدولة الواحدة، حيث سيتمكن أشخاص في أنحاء العالم من المنافسة على الوظائف دون اعتبار للحدود، وسيساهم ذلك في زيادة دخل الأفراد، وإنعاش الاقتصاد في المناطق النائية والفقيرة.
سيتمكن مبدعون من مناطق نائية من العمل دون الهجرة إلى العواصم والمراكز المالية ودون الهجرة إلى بلدان أخرى. وتتمكن ربات بيوت من إنشاء متاجر إلكترونية ومنافسة المتاجر التقليدية الكبرى.
وسينجح رواد أعمال من دول العالم الثالث في التوسع والوصول لأسواق الدول المتقدمة دون أن يحلموا بالهجرة ومغادرة مجتمعاتهم أو دولهم.
ستساعد الثورة التقنية الحالية القائمة على الرقمنة على إيصال التأثيرات الاقتصادية الإيجابية إلى بقاع أكثر اتساعا وشمولية من المدن الكبرى والعواصم.
كما أن أعدادا كبيرة من مباني المكاتب ستصبح خالية وسيتم تحويلها تدريجيا إلى مساكن، الأمر الذي يؤدي إلى وفرة الوحدات السكنية دون الحاجة إلى مباني جديدة، الأمر الذي يعالج أزمة تعاني منها معظم مدن العالم.
المساواة وتكافؤ الفرص
في نظام العمل عن بعد لن يستند تقييم الموظف على شخصيته وسلوكه ومواعيد الحضور والانصراف ومحاباة المدراء والزملاء. ولن يكترث المدراء بمكان نشأة أو إقامة الموظف، مما يقلص تأثير عوامل التمييز التقليدية، مثل العِرق والعمر والجنس والحالة الاجتماعية في عملية التوظيف.
كما يتيح للفئات الأقل حظا في فرص التوظيف مثل ذوي الاحتياجات الخاصة والنساء المرتبطات بظروف أسرية خاصة، الحصول على وظائف عن بعد، وتنمية مسارهم المهني.
وسوف يؤدي العمل عن بعد وازدهار الوظائف التي تتم عبر الإنترنت إلى تقليل دور الشهادات الجامعية في الحصول على الوظائف.
فمعظم وظائف التصميم والبرمجة والتسويق الإلكتروني لا تتطلب سوى المهارة ومواكبة التطورات الجديدة، التي لا تستطيع المناهج الجامعية التقليدية تقديمها.
وإذا كان التعليم الجامعي لا يتاح للجميع بذات القدر من السهولة، فإن العمل عن بعد سيعطي جميع الأشخاص فرصة صنع مسارهم التعليمي الخاص عبر التعلّم الذاتي، الذي أصبح متاحا للجميع.
ورغم كثرة الأصوات المحذرة من اختفاء ملايين الوظائف في المستقبل بسبب تطور الذكاء الاصطناعي، فإن العمل عن بعد سيساهم في فتح أسواق عمل جديدة لتلبية احتياجات المشاريع والشركات الجديدة الصاعدة التي تعتمد على نظام التوظيف والعمل عن بعد.
الحفاظ على البيئة
في الوقت الذي تزداد فيه الهواجس البيئية وضغوط الرأي العام لتقليل الانبعاثات واستخدام المواد البلاستيكية، سيقدم العمل عن بعد مساهمة هائلة من خلال تغييرات في دورة الحياة، يكون لها أثر عظيم في الحفاظ على البيئة.
لن تحتاج الشركات إلى انتقال ملايين الموظفين يوميا من منازلهم إلى مقرات العمل والتسبب في زحام مروري وانبعاثات كاربونية لا حد لها.
كما أن العمل عن بعد سيقلص الحاجة لإنشاء مبان جديدة تقلّص من المساحات الخضراء، وتستهلك الكثير من الطاقة للإضاءة والتكييف والتدفئة وغيرها، الأمر الذي يقلص من الأعباء على البيئة.
وحين تقضي أعداد كبيرة من الموظفين وقتا أطول في المنزل، سيؤدي ذلك لاستخدام كميات أقل من الورق والبلاستيك والأطعمة السريعة، وحتى الوقود والكهرباء.
مكاسب الشركات والأفراد
على صعيد عمل الشركات يقلل العمل من المنزل نفقات التشغيل بشكل كبير حيث يسقط الحاجة إلى المكاتب ومقرات العمل ومعها فواتير الكهرباء والماء ومواقف السيارات والرسوم البلدية والمكاتب ونفقات أخرى.
ويؤدي أيضا إلى رفع إنتاجية الموظفين وزيادة التركيز على العمل مع زوال الأحاديث الجانبية وتراجع فترات الاستراحة ومرونة العمل خارج ساعات الدوام وفي العطل الرسمية وفي أيام العطل الرسمية.
ويقلل العمل عن بعد حاجة الموظفين لطلب إجازات لظروف عائلية أو أسباب طارئة أو حتى السفر لأنهم يستطيعون أخذ العمل معهم إلى أي مكان، وتنخفض حاجتهم للإجازات المرضية والعادية والتغيب لأسباب قاهرة مثل الأحوال الجوية وانقطاع المواصلات بسبب الإضرابات.
ويوسع خيارات الشركة في اختيار أفضل الكفاءات من أي مكان في البلاد أو حتى من أنحاء العالم بدل الخيارات المحدودة بالذين يمكن لهم العمل في مكان محدد. ويسقط الحاجة إلى الكثير من الإجراءات الإدارية والقانونية.
ويسمح للشركات بمرونة توزيع ساعات العمل بين الموظفين دون منافسة وتذمر من صعوبة الحضور في ساعات محددة.
أما بالنسبة للموظفين فإن العمل عن بعد يوفر عليهم ساعات الذهاب والعودة من مقرات العمل وتكاليف النقل وحتى الحاجة لملابس والمظاهر الضرورية وساعات التحضير للخروج إلى العمل
ويفتح أمامهم فرص عمل لا ترتبط بمساحة جغرافية ويمنحهم حرية اختيار المكان الذي يعملون منه سواء البيت أو المقهى والأماكن العامة مثل الحدائق حين يكون الطقس جميلا وحتى السفر وزيارة الأهل، إذا كان ذلك يسمح لهم بمواصلة العمل.
ويساعد العمل من المنزل الموظف على تحقيق التوازن بين مسؤوليات عمله وحياته الشخصية، فيتمكن من ممارسة هواياته بحرية أكبر، مع رعاية أفراد أسرته وقضاء وقت أطول مع العائلة كما يساعد الأفراد في تحقيق أهدافهم الحياتية والمساهمة في القضايا المجتمعية، إضافة إلى تحسين صحتهم النفسية والجسدية.
تاريخ العمل عن بعد
قد يبدو العمل عن بعد للكثيرين جديدا، لكنه في الواقع موجود من عقود، وتشير البيانات إلى أنه نما بنسبة 159 في المئة منذ عام 2008، وهي مرشحة للتضاعف بوتيرة انفجارية.
وتعتمد عليه شركات كبرى مثل غوغل وأمازون وديل وزيروكس وأميركان إكسبرس، وعدد هائل من الشركات الأخرى بينها الكثير في المنطقة العربية.
محور هذا التحول هو ثورة الاتصالات، التي دفعت جميع المؤسسات والشركات بلا استثناء إلى التحول الرقمي، حتى ولو جزئيا بعد أن أصبح التواصل وإدارة المهام عن بعد أكثر سهولة من أي وقت مضى.
تستطيع فرق العمل اليوم تبادل الملفات ومشاركتها بكافة أنواعها عبر حزمة التطبيقات السحابية، وأدوات البرمجيات التعاونية التي تقدمها غوغل ومايكروسوفت وغيرهما. ويمكن عقد لقاءات واجتماعات العمل عبر الإنترنت بسهولة باستخدام برامج وتطبيقات اجتماعات الفيديو، مثل سكايب وزووم وغيرهما.
في عام 2013 قال رجل الأعمال الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون أن المكاتب التقليدية ستختفي خلال 20 عاما وسوف يتساءل الناس بتعجب عن السبب الذي جعل المكاتب موجودة من قبل.
المشكلة في هذا التحول الإجباري بسبب انتشار الوباء أن الكثير من الشركات وموظفيها يختبرون العمل عن بعد للمرة الأولى، لكنهم سيكتشفون فوائده بسرعة وقد لا يعود معظمهم إلى العمل التقليدي بعد زوال الوباء، وبعد أن يعرفوا مكاسبه الكبيرة.