جولة بحرينية مع فيلسوف العمارة العراقي رفعت الجادرجي

رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار الشيخة مي بنت محمد آل خليفة تؤكد أن رحيل الجادرحي هو وداع آخر لجيل عريق من المعماريين.
الاثنين 2020/04/13
معماري من طراز خاص

المنامة - بعد سيرة منحت عوالم العمارة العالمية جمالياتها وملامحها، وكرست موضوع الهوية فلسفة تصميمية فريدة، رحل المعماري العراقي والفنان التشكيلي والكاتب رفعت الجادرجي، الملقب بفيلسوف العمارة، الجمعة في لندن، وبذلك يودع العالم واحدا من أبرز معمارييه ومنظري عمارته، الذين أثروا الجماليات الهندسية والتصميمية بفرادة ما قدموه من منجزات، والذين منحوا الفلسفة المعمارية رؤى عميقة تتناول التركيبة الاجتماعية – العمرانية، ومساءلات الهوية وغيرها.

وأكدت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار أن هذا الرحيل لفيلسوف العمارة، هو وداع آخر لجيل عريق من المعماريين الذين أسسوا هويات بصرية ونظريات معمارية فريدة، فبعد محمد مكية وزها حديد، يغادرنا اليوم رفعت الجادرجي، الذي صدّر فلسفة العمارة من الوطن العربي إلى العالم كله، مراهنا على الأصالة والهوية كتعبير عالمي وفلسفي.

وأضافت خليفة “أمام هذا الفقد، يبقى المعمار هو هوية الروح والأوطان، وهو ما نعول عليه لذاكرة أولئك الذين كرسوا أعمالهم بكل محبة وجمال في أوطاننا. إن المنامة التاريخية التي نسج فيها الجادرجي هندسته ومعماره ستبقى وفية لهذا الرمز التاريخي، وحافظة لفلسفته ومعماره”.

مبينة أن الجادرجي يتبنى الحفاظ على الأصالة وهويات المدن، وهو ما شكل مسعى حقيقيا وفريدا في مسار حياته عبر الإنجاز والحفاظ على ما أنجز كذاكرة وطنية للشعوب.

معماري صدّر فلسفة العمارة من الوطن العربي إلى العالم كله، وترك العديد من المؤلفات في العمارة والفن التشكيلي
معماري صدّر فلسفة العمارة من الوطن العربي إلى العالم كله، وترك العديد من المؤلفات في العمارة والفن التشكيلي

وقد أشارت هيئة البحرين للثقافة والآثار عبر “نداء المنامة” في فبراير الماضي إلى استراتيجيتها للاعتناء والحفاظ على المكونات التاريخية التي تنفرد بها المنامة التاريخية، مشيرة عبر الخريطة التي دشنتها آنذاك إلى مسار ثقافي يسرد حكايات معمارية عالمية تحتضنها هذه المدينة منذ تشكل ملامحها وتراكيبها العمرانية، وقد أشارت إلى فيلسوف العمارة الجادرجي وأعماله باعتبارها مكونا أصيلا للتراث الحديث، وذاكرة هندسية فريدة، وذلك من خلال “عمارة أوال” الواقعة على امتداد شارع الحكومة، وتحديدا مقابل سينما القصيبي، وبالقرب من عدد من الملامح الهندسية الأخرى من تصميم المعماري العالمي محمد مكية.

وقد اتخذ الجادرجي من البحرين إحدى المحطات التي قدم فيها أعماله ونظرياته ومفاهيمه التصميمية، وذلك خلال تقلده رتبة أستاذ زائر للعديد من المدارس الهندسية في الفترة ما بين العامين 1983 و1992، حيث تنقل ما بين جامعات العراق ومختلف دول العالم من بينها: البحرين، لبنان، سوريا، تونس، إنجلترا، النرويج والولايات المتحدة الأميركية، وذلك لمناقشة العديد من المفاهيم المتصلة بفلسفة الفن، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، والعلوم البيولوجية والفلسفة.

يعتبر المعماري رفعت الجادرجي نموذجا للالتزام بالهوية المعمارية الوطنية، وقد شكل خلال سيرته إرثا متكاملا يؤكد إسهام العمارة في صياغة هويات المدن والأوطان، حيث وصف العراق رحيله بالقول إن “فن العمارة في العراق والعالم يفقد رئته الحديثة التي تنفست حداثة وجمالا، حيث مارس الجادرجي العمارة بوصفها وظيفة إنسانية وجمالية وهبها كل حياته، عاملا ومنظرا”.

 ومن أهم أعماله: نصب الجندي المجهول الأول في ساحة الفردوس (1958) وقاعدة النصب التي أقيم عليها نصب النحات جواد سليم لاحقا، مبنى المجمع العلمي العراقي (1966)، مبنى اتحاد الصناعات الوطنية (1966)، مصرف الرافدين (1969)، بناية البريد المركزي في السنك (1970)، مبنى مجلس الوزراء العراقي (1975) وغيرها.

كما يصنف الجادرجي كمعماري من طراز خاص، ويوصف باعتباره عبقريا في المعمار خصوصا وأن أعماله تحمل رمزيات عدة تتوغل في ذاكرة الشعوب، وتحتضن كافة المستويات الاجتماعية والفئات، كما أنها تجسد شواخص بصرية شاهدة على حداثة العمارة العربية.

التخطيطات الأولية لأول جندي مجهول في العراق للفنان والمعماري العراقي الكبير رفعت الجادرجي (1959)
التخطيطات الأولية لأول جندي مجهول في العراق للفنان والمعماري العراقي الكبير رفعت الجادرجي (1959)

وحول فلسفته، دعا الجادرجي خلال حياته إلى إعادة التفكير في العمارة، قائلا إن “العمارة ليست طرز مبان نسكنها، إن مفهومها يدل على كونها كيان يشاركنا العيش والوجود والمعرفة، وأثريا قابلا للتغيير والتقدم والتجدد وابتكار عالم ممكن، يبدأ من التاريخ ليطل على المستقبل”.

وإلى جانب اشتغاله في العمارة، قدم الجادرجي العديد من الأعمال الكتابية والمؤلفات التي تحمل تنظيرات ومفاهيم حول العمارة والفن التشكيلي، من بين كتبه: “شارع طه وهامر سميث” (1985) والذي يتناول تحليلا للظواهر المعمارية وفقا لنظرية المادية الجدلية، “الأخيضر والقصر البلوري” (1991) وهو أحد مؤلفاته فترة سجنه والذي يتناول بنية عقلية جدلية تكرس مجال العمارة مدخلا لدراسة المجتمع وتركيبته الاجتماعية والنفسية، “مقام الجلوس في بيت عارف آغا” (2001) ويقدم من خلاله دراسة تحليلية للعلاقة التي يمارسها الفرد الإنسان عند تحديد هويته وتركيبتها من خلال تعامله مع ما يتم صنعه من أثاث منزلي وأبنية، “دور العمارة في حضارة الإنسان” والذي يشرح آفاقا لفهم أهمية الرسالة الثقافية والإنسانية التي تقدمها العمارة، ويعتبر هذا الكتاب من طليعة الدراسات التي تناولت العمارة فنا ورسالة. كما كتب العديد من المؤلفات الاخرى.

وضمن اشتغاله على حفظ الذاكرة حرص الجادرجي على توثيق المعمار العراقي عبر الصور الفوتوغرافية، وضم أرشيفه الخاص عشرات الآلاف منها، ففي حين كان والده السياسي كامل الجادرجي من رواد التصوير في العراق ممن انهمكوا في توثيق الحياة اليومية، انشغل الابن رفعت في توثيق المعمار، وضمّن صوره توثيقا للعديد من الأبنية والتصاميم الهندسية لمعماريين آخرين، لم تعد أعمالهم موجودة اليوم.

14