رضوى الأسود كاتبة تنحاز للتاريخ الذي يكتبه المهزومون

من أسباب اختيار الكاتبة المصرية لمأساة الأرمن في عملها الأدبي وجه الشبه القائم بينهم وبين الهنود الحمر، فهم أبادهم الأتراك والهنود أبادهم البيض.
الخميس 2020/03/26
التاريخ أكاذيب نصدقها والأسطورة حقيقة لا نصدقها

تولي العديد من الروايات العربية الحديثة اهتماما بالنبش في المُسلّمات التاريخية بُغية الكشف عن جوانبها المُعتمة. من ثم، يستطيع العمل الأدبي أن يُقدِّم رؤية مغايرة تنتصر للمُهمَل والمُهمَش، وأن يكشف عن جذور أزمات إنسانية وفكرية راهنة. في هذا الإطار حاورت “العرب” الكاتبة والروائية المصرية رضوى الأسود حول أحدث رواياتها “بالأمس كنت ميتا”.

صدر للأديبة رضوى الأسود، عدد من الأعمال الروائية منها “حفل المئوية”، “تشابُك” و“زجزاج”. وفي روايتها “بالأمس كنت ميتا.. حكاية عن الأرمن والكرد”، الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، تتناول الكاتبة مأساة الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915على يد الحكومة التركية في الدولة العثمانية.

في حوارها مع “العرب” تقول الأسود “لم أكن أعرف عن المأساة الأرمنية شيئا حتى خمس سنوات مضت، على الرغم من أنه، منذ الطفولة، كثيرا ما كنا نقول الفنانة نيللي أرمنية، والفنانة لبلبة أرمنية، إلا أنني كنت أراها جنسية مثل جنسيات أخرى كاليونانية والإيطالية من تلك التي استوطنت مصر حينما كانت تحمل الطابع الكوزموبوليتاني، شعوب هربت من أزمة اقتصادية أو حرب عالمية وتوجهوا لمصر المزدهرة المستقرة آنذاك”.

وتضيف “أذكر أنه كان هناك صديق لنا من خريجي معهد السينما قدم فيلما في التسعينات بعنوان ‘الأرمن في مصر‘، وكان مشهده الافتتاحي صورة لجبال من الجماجم والهياكل العظمية البشرية مرصوصة على الأرض، ورغم أن والدتي كانت وقتها تشاهد معي الفيلم، وحدثتني عما فعله العثمانيون بالأرمن إلا أنني لم أحاول قراءة تاريخ تلك المجازر، ولو حتى من باب الفضول”.

الظُلم البشري

رواية الأسئلة الصعبة
رواية الأسئلة الصعبة

تقول الأسود “بدأت كتابة الرواية بعد الذكرى المئوية للإبادة، ومكثت أكتب فيها سنتين إلا ربع تقريبا، وانتهيت منها منذ حوالي ثلاث سنوات، وأذكر تلك اللحظة تماما، كان يوم خميس ليلا، حينما أحسست بالشخصيات والأحداث وهي تقفز في رأسي في شكلها الأولي، وتطرد في احتلالها لذلك المكان فكرة كانت بالفعل مستقرة بل متغلغلة، وكنت على وشك تنفيذها”.

وتضيف “ذلك اليوم كان نهاية وبداية، نهاية تفكير كان يقتلني يوميا، بمجرد أن تستحضر ذاكرتي الصور البشعة للمجازر التي التقطها مصورٌ ألماني من قلب الأحداث كي تظل شواهد قبور لشعب ذُبِحَ بلا رحمة، ودون أن تهز استغاثاتهم ضمائر مهندسي تلك المجازر، لكن ظلت الصور صرختهم السرمدية ضد الظلم البشري، ذلك التفكير الجنوني ظل يحاصرني ويدفعني للكتابة عن الإبادة، ومن ثم أخذت القرار بالبدء”.

توضح الأسود لـ“العرب”، أن أسباب اختيارها للأرمن كي تتناول مأساتهم في عملها الأدبي بقولها “الأرمن هم الهنود الحمر الذين أبادهم المستعمر عن بكرة أبيهم، هم الشعب البنغالي الذي مات منه الملايين جوعا بسبب الجشع البريطاني، هم الهندوس الذين قَتَل منهم الملايين محمود الغزنوي، هم البشموريون الذين قتل منهم الآلاف الخليفة العباسي المأمون، هم الفلسطينيون الذين تمارس إسرائيل ضدهم سياسة التطهير العرقي، وهم الكرد الذين تمارس تركيا ضدهم سياسات وحشية”.

بمعنى أن الفكرة كلها في المعاناة والظلم البشري الذي تعرضت له أعراق وأجناس وإثنيات مختلفة على مدار التاريخ، وقد انتقيت منها حالة لشعب أو جنس، لأنني لا أستطيع أن أتكلم عنها جميعا في عمل واحد.

في الرواية، لكل طرف وازعه في ما فعل أو ارتكب، وتبين الكاتبة أن محركها الأساسي لخط الرواية، كانت صورة شهيرة من صور المذبحة، وهي لسيدات أرمنيات عاريات مشبوحات فوق صلبان خشبية، تماما مثل صورة المسيح المصلوب.

لكن الدافع الأكبر، هو ما نعيشه حاليا من حالة سعار وتشدد ديني، وإقصاء للآخر المختلف، والزج باسم الإله لشن حروب وارتكاب مذابح، لذا أهدت الأديبة الكتاب “إلى كل روح أُزهِقت باسم الإله”.

عن مدى تماسها مع موضوع وشخوص روايتها، تقول “بالطبع أنا لست أرمنية، ولا كردية، كما أنني لم أمر في حياتي بمثل تلك العلاقة العشقية، ولا بذلك الرجل الأخَّاذ الأقرب للخيال منه إلى الواقع، بل لم أصادف صداقة حقيقية في صغري كما في الرواية، لكن تستطيع أن تقول إنني خليط من لوسي وليلى، من الحكمة والرعونة، من الرضوخ والتمرد، من الليبرالية والتصوف، كما أنني مثل مالك السائح دوما بحثا عن الحقيقة”.

وتضيف “حينما كنت في المدرسة، طالبة في مدرسة راهبات فرنسية، كانت هناك فتيات من جذور مختلفة، هناك من كانت تقول أنا من أصول لبنانية، وأخرى تقول أنا من أصول سورية، وثالثة تقول أنا من أصول يونانية، فكنت أنا بالمثل بكل براءة وعفوية أقول الحقيقية أنا من أصول تركية، ربما يكون الأصل العثماني هو ما جعلني أكتب هذه الرواية كنوع من الاعتذار، ويكون هذا كله مُسببه العقل الباطن.. لم لا”.

زيف التاريخ

رواية عن جرائم العثمانيين ضد الأرمن والأكراد
رواية عن جرائم العثمانيين ضد الأرمن والأكراد

تولي الكاتبة اهتماما واسعا بالتاريخ، ففي كتابها “أديان وطوائف مجهولة”، لم تتحدث عن دين أو طائفة أو فرع لدين، إلا وقد رصدت الحقبة والعوامل التاريخية التي ظهر فيها، بالإضافة لرصدها لجوانب أخرى أنثروبولوجية ونفسية واجتماعية أحاطت بتكوين أو ظهور دين ما، أو حتى ساعدت على انتشاره أو اندثاره، كما أن ثاني رواياتها “تشابُك” تحدثت عن التاريخ المصري القديم، وفي روايتها “بالأمس كنت ميتا” تتحدث عن صفحة من التاريخ العثماني.

تتحدث الكاتبة عن عشقها للتاريخ، الذي تعتبره تحديا عظيما وطرحا للأسئلة الإنسانية الكبرى. فمن أكثر العبارات المتعلقة بالتاريخ التي تقف دائما أمامها، هي أن التاريخ هو الأكاذيب التي نصدقها، والأسطورة هي الحقيقة التي لا نصدقها.

كذلك ترى أن التاريخ يعيد نفسه، وتقول “نحن مع الوقت ومع انتشار المعرفة وطرق تداولها عبر وسائل التواصل المختلفة، أصبح عِلْم خاصة الخاصة متاحا للكافة، فاكتشفنا أن كثيرا مما درسناه كحقائق وتاريخ مؤكد، ما هو إلا زيف فج لما وقع بالفعل، وكم من أبطال اكتشفنا أنهم سفاحون وقاطعو طرق، وكم ممن اعتبرناهم سياسيين كبارا تم الزج بأسمائهم وشخوصهم، لتُكتَب عنهم قصص أسطورية وملاحم بطولية ليس لها أساس من الصحة، في حين أن الأسطورة، حسب شتراوس، تشير إلى وقائع حدثت بالفعل منذ زمن بعيد، لكن يتداخل بها الزمان ولا تخضع أحداثها لمنطقية”.

ترى رضوى الأسود، أن التاريخ والأسطورة يتفقان في شيء أساسي، تَدَخُّل الذاكرة الجمعية التي أحيانا يخذلها المنطق والزمن، وتتحكم بها الأهواء وعوامل سيكولوجية وأنثروبولوجية. أما عبارة التاريخ يكتبه المنتصرون، فهي تؤمن أنه في أحيان كثيرة يكتبه المهزومون، والمُنكَّل بهم مثل الأرمن الذين تتضح وتنكشف مأساتهم يوما بعد يوم، تمهيدا لحصولهم على حقوقهم في المستقبل القريب، فأحيانا الهزيمة في جوهرها انتصار، والانتصار هزيمة محققة.

تكشف الكاتبة أن غالبية حكومات الدول الاستعمارية السابقة ترفض الاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها جيوشها ضد شعوب المستعمرات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وسبب الرفض هو التهرب من المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن تلك الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، وتمثل فرنسا وبريطانيا النموذجين الأسوأ في هذا المجال.

وتتابع “لكن هناك نماذج لاعترافات أطراف أخطأت، فكندا اعتذرت للسكان الأصليين عن خطفها لأطفالهم، وصربيا اعتذرت عن مذبحة سربرنيتسا، وبلجيكا اعتذرت عن خطف أطفال أفارقة في أثناء الاستعمار، ومنظمة إيتا اعتذرت لضحاياها في إسبانيا وفرنسا، وماكرون اعتذر عن التعذيب في الجزائر، وألمانيا اعتذرت لضحاياها الأوروبيين”.

تختم رضوى الأسود قائلة “غير أن تركيا، لا تكتفي برفض الاعتراف بما اقترفته بحق الأرمن، بل تُنكر تماما، وأحيانا تعكس الصورة،  وفي النهاية، السياسة لعبة تتغير قواعدها باستمرار حسب المصلحة، وعدو اليوم قد يكون صديق الغد، والعكس صحيح. ومن ثم فهي لا تستبعد أن يأتي يوم تعترف فيه تركيا بتلك المجازر وتعتذر عنها”.

15