الأوروبيون المطرودون من بريطانيا

ثلاثمئة أوروبي يجب أن يغادروا أراضي المملكة المتحدة. ليس بسبب انتشار فايروس كورونا، وإنما لأنهم أخفقوا في الحصول على إقامة قانونية في بريطانيا “المستقلة” حديثا عن الاتحاد الأوروبي. هذا ما تقوله الإحصائيات الصادرة عن وزارة الداخلية البريطانية مؤخراً. وهذا ما سيكون عليه مصير المئات، أو ربما الآلاف من الأوروبيين الذين تقدموا بطلبات جنسية أو إقامة دائمة في بريطانيا، بعد دخول بريكست حيز التنفيذ نهاية يناير الماضي.
أكثر من ثلاثة ملايين وثلاثمئة ألف أوروبي يعيشون في بريطانيا، جميعهم وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مجرد مهاجرين وعمالة أجنبية تحتاج إلى موافقات للعمل والعيش في المملكة المتحدة. حالهم في هذا حال أي مهاجر قادم من خلف البحار. لم يعد هناك فرق بين أوروبي وغير أوروبي إلا في القدرة على تحصيل عمل بشروط تسمح بالعيش دون مساعدات من حكومة لندن، أو التسجيل في جامعة كطالب أجنبي يدخل العملة الأجنبية إلى البلاد.
لم يجتمع الأوروبيون والبريطانيون منذ نهاية يناير الماضي إلا في جولة واحدة فاشلة من مفاوضات ما بعد الخروج. ظن الطرفان أن الجولة الثانية التي كانت مقررة في الثامن عشر من مارس الجاري ستكون أفضل
وزير الحدود والهجرة في بريطانيا، كيفن فوستر، قال إن أكثر من 3 ملايين أوروبي تمكنوا فعلاً من تسوية أوضاعهم وفقاً لمعايير الإقامة الجديدة. ولكن مصير الباقين لا يزال معلقاً بيد المحققين البريطانيين الذين ينظرون في طلباتهم، ومن يُرفَضُ طلبه يجب عليه أن يرحل قبل شهر يونيو من عام 2021. قد تبدو مهلة زمنية طويلة بعض الشيء، ولكنها غير مجدية طالما أنك لن تتمكن من العمل، ولن تحصل على مساعدات تعينك على الحياة هنا.
بعض الأوروبيين رفضت طلبات إقامتهم في بريطانيا على خلفية تورطهم بجرائم مختلفة. وبعضهم الآخر بسبب نقص في الأوراق الرسمية التي تحتاجها معاملاتهم. في الحالتين لا يجد المرفوضون أمامهم سوى اللجوء إلى المحكمة العليا للاعتراض على قرارات رفضهم. ولكن ما من ضمانات لإنصافهم هناك وإعادة تقويم أوضاعهم لأسباب عديدة، ليس آخرها وباء كورونا.
نشطاء ومنظمات حقوقية يحذرون من غموض يكتنف عملية التقييم والحسم في طلبات إقامة الأوروبيين. يقولون إن هناك نوعا من الضبابية التي تلفّ هذه العملية، تستدعي التوضيح من قبل وزارة الداخلية البريطانية. فتردّ الأخيرة بأن قرارات الرفض تصدر بعد تدقيق وتمحيص، ولكل رفض ما يسوّغه ويفسره لصاحبه، وللمحامين الذين يتقدمون للدفاع عنه ومساعدته.
عدد الطلبات المرفوضة في شهر فبراير الماضي كان سبعة فقط. ثم وصل العدد هذا الشهر إلى 300 دفعة واحدة. الأرقام ليست كبيرة مقارنة بملايين الأوروبيين الذين تمكنوا فعلا من الحصول على إقامات تتيح لهم علاقة مستمرة مع المملكة المتحدة لعقود كما تقول الداخلية البريطانية. ولكن الفارق الكبير في الأعداد بين الشهرين المذكورين هو ما خلق إشارات الاستفهام واستدعى توقعات باستمرار مسلسل الرفض ليطال الآلاف من الأوروبيين.
لا يوجد ما تخفيه وزارة الداخلية وفقا لتصريحات مسؤوليها، ولكن هناك ما يستدعي التساؤل عن سبب ولادة كل حالات الرفض تلك، فقط بعد دخول طلاق لندن وبروكسل حيز التنفيذ نهاية شهر يناير الماضي. خاصة وأن قبل ذلك التاريخ لم تصدر أي حالة رفض لأوروبي على أساس عدم الأهلية للإقامة والعيش في بريطانيا. فهذا الأساس لم يكن واضحاً، ولعل لندن كانت تود بحثه أكثر في إطار مفاوضاتها مع بروكسل حول مرحلة ما بعد الخروج.
المشكلة الكبرى اليوم تكمن في وباء كورونا الذي يتمدد في دول القارة العجوز. لم تؤجل بسببه فقط جولات المفاوضات التي كانت مقررة بين لندن وبروكسل خلال هذا العام، من أجل حسم كافة الملفات العالقة وتأسيس علاقة مستقبلية جديدة بين الطرفين قبل 31 من ديسمبر المقبل. وإنما تأجل أيضاً النظر في طلبات إقامة الأوروبيين، وتأجلت مواعيد مراجعة الدوائر المعنية لهؤلاء الذين رفضت طلباتهم لسبب أو لآخر.
لم يجتمع الأوروبيون والبريطانيون منذ نهاية يناير الماضي إلا في جولة واحدة فاشلة من مفاوضات ما بعد الخروج. ظن الطرفان أن الجولة الثانية التي كانت مقررة في الثامن عشر من مارس الجاري ستكون أفضل، ولكن الوباء كان أسرع من التكهنات وأجّل الجولة بكل توقعاتها. ليس هذا فقط وإنما غيّر الأولويات ووضع المفاوضات برمتها في آخر قائمة اهتمامات الطرفين.
لا يسع الجميع الآن إلا الانتظار، ولا يبدو أن الوباء سيرحل سريعا. قد يأتي الوباء على المهل القانونية التي يمتلكها المرفوضون الأوروبيون للاستئناف أمام القضاء، أو حتى لاستكمال طلبات إقامتهم المنقوصة. حينها لن يكون أمامهم سوى الرحيل بصمت. سيطردون من بريطانيا بعدما عاشوا فيها لسنوات وربما لعقود. ليس جميعهم ربما، فقط من يكتب له النجاة من جائحة كورونا.