شهادات توثق إغواء النظام التركي لجنود الإرهاب في سوريا

لم تكن الأحداث التي شهدتها سوريا في السنوات الأخيرة، معزولة عن تدخل تركي أضفى على الأزمة السورية ملمحا إقليميا ودوليا وحولها من ثورة إلى أزمة مركبة. لم يتوقف التدخل التركي عن إشعال الأزمة، سواء بضخ المقاتلين أو بالاصطفاف مع تيارات إسلامية متطرفة، وهو ما ساهم في استعصاء الأزمة السورية وابتعادها عن مسار الحل السياسي.
مليون لاجئ جديد، والعشرات القتلى في صفوف الجيش التركي، هم نتاج الأسبوع الأخير من التواجد التركي في إدلب، ما أعاد تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بفتح الحدود أمام اللاجئين السوريين للتوجه إلى أوروبا، بينما يقوم بإعادة لاجئين آخرين إلى سوريا قسرا، حسب ما وثقت منظمة هيومان رايتس ووتش في شهر سبتمبر الماضي، في محاولة للضغط على المجتمع الدولي للرضوخ أمام أهداف تركيا من التدخل في سوريا، وهو الفعل الذي تسبب في تفاقم الأزمة السورية منذ اندلاعها، وأسهم في اشتعالها على مدار السنوات.
نرصد في التقرير التالي الدور التركي في الأزمة السورية عبر شهادات لمقاتلين سابقين وذوي مقتولين في صفوف الجماعات السورية المسلحة، استطاعت أن تصل إليهم الكاتبة بطرق مختلفة، مع التنويه بأنه تم تغيير أسماء المصادر وحذف بعض المعلومات التي من شأنها تمثل خطرا عليهم بناء على طلبهم.
بوابة المقاتلين
منذ إعلان تأسيس ما يعرف بـ”الجيش السوري الحر”، على يد ضباط منشقين عن الجيش السوري، فتحت تركيا أراضيها لمن يريد العبور من خلالها للانضمام إلى صفوف المقاتلين.
عمّار، مهندس مصري انضم لهم عام 2011، وتركهم بعد عامين، ويعيش الآن في تركيا، روى رحلته للكاتبة قائلا “نظرت لما يحدث في سوريا بالبداية وفق ما كنت أطالعه في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، وبدت لي المعركة باعتبار أنه شعب يثور ضد نظام مستبد يبيده، ثم تشكل الجيش السوري الحر، وظننت أن هدفه، كما أعلن عند تأسيسه، حماية المدنيين من التعرض للانتهاكات غير الإنسانية على يد قوات بشار الأسد، وشعرت أن كل إنسان يتوجب عليه الانضمام إليهم لحماية السوريين من إبادة شبيحة النظام لهم، وكان عمري حينها 21 عاما وأنهيت دراستي الجامعية للتو، وأمي وأبي متوفيان ولا توجد لدي أي التزامات”.
وأضاف “في نفس التوقيت كانت توجد إعلانات كثيرة عن منظمات إغاثية تطلب متطوعين للعمل معها في الأراضي السورية، وعلمت أن بعضها غطاء لضم المقاتلين المتطوعين لصفوف الجيش السوري الحر، فتواصلت معها وسألت عن الإجراءات وشرعت في تنفيذها وكانت عبارة عن إصدار تأشيرة دخول وخروج متعدد من وإلى تركيا صالحة لمدة عام وتذاكر ذهاب وعودة من القاهرة إلى تركيا والعكس”.
لم يكن النظام المصري في ذلك الوقت قد فرض قيودا على السفر إلى تركيا مثل الآن، هذا ما أكده عمّار في شهادته التي تابعها قائلا “سافرت إلى إسطنبول ومنها إلى مدينة غازي عنتاب، وعبرها إلى النقاط الحدودية وصولا إلى حلب عابرا أحد المعابر التركية بشكل رسمي، في ظل غض الطرف من قوات حماية الحدود رغم علمها بسبب انتقالنا، حيث عبرت الحدود ضمن عدد كبير من المتطوعين للالتحاق بالجيش السوري الحر من جنسيات مختلفة آسيوية وعربية وأفريقية وأوروبية”.
في رحلة الوصول إلى حلب التقى عمّار بآخرين عبروا الحدود التركية بمساعدة عصابات تهريب، بعد أن دخلوا تركيا بواسطة تأشيرات سياحية، وقبل وصولهم نسقوا مع المهربين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، “التي يعرض عليها سماسرة التهريب خدماتهم قبل أن يتحركوا من أوطانهم”.
منذ إعلان تأسيس الجيش السوري الحر، فتحت تركيا أراضيها لمن يريد العبور من خلالها للانضمام إلى صفوف المقاتلين
وأوضح عمّار “بعد انشقاقات في الجيش السوري الحر، وتحول سوريا لساحة حرب أهلية بين جماعات مسلحة كلها تمتلك الدعم الخارجي والمقاتلين متعددي الجنسيات، أصبح لكل جماعة أو جبهة مسلحة المهربون الخاصون بها والمعنيون بتصدير المقاتلين إليها من الحدود التركية”.
عاد عمّار إلى تركيا عام 2013 بعد مشاركته في معركة للجيش السوري الحر ضد قوات نظام الأسد في حلب، مشيرا إلى أن ما رآه من وحشية الذين يقاتل في صفوفهم داخل حلب ضد قوات الأسد وضد قوات أخرى معارضة على خلاف مع الجيش السوري الحر. كان سبب تركه لساحة المعركة، إدراكه وقتها أن الأمر “اقتتال داخلي على مصالح سياسية ومحاولة لتقسيم الأرض السورية بين جماعات مسلحة ويذهب في سبيل ذلك المدنيون وتزهق أرواح الآلاف، وواقع الأرض في سوريا يؤكد أن سلاح ما يسمى بقوات المعارضة المسلحة الموجهة ضد بعضها يتجاوز بكثير مجمل سلاحها الموجه ضد قوات نظام الأسد وحلفائه”.
في أعقاب عودته من سوريا إلى تركيا، التحق عمّار بإحدى الجامعات التركية كطالب دراسات عليا في كلية الهندسة، واستقر في إسطنبول، حيث ظن أن السلطات المصرية ربما تقوم بإلقاء القبض عليه إذا حاول العودة إلى بلاده، لكنه لم ينفصل عن تطورات رحلات المقاتلين الأجانب من تركيا إلى جبهات القتال السورية المختلفة، ووفق معلوماته الحالية فإن “خطوط نقل المقاتلين ما زالت قائمة، خاصة مع تزايد الميزات التي تقدمها أنقرة حاليا للمقاتلين وعائلاتهم الذين ينضمّون لصفوف الجماعات المسلحة التي تتحرك دعما لقوات الجيش التركي”.
عطايا درع الفرات
الامتيازات التي يعنيها الشاهد ترويها رنا، أرملة معلم سوري من مدينة جرابلس بريف حلب انضم للقتال في صفوف الجيش السوري الحر، ليشارك في معركة درع الفرات أغسطس 2016، والتي أطلقها الجيش التركي بهدف أعلنته أنقرة في حينه، يتمثل في منع حدوث موجة نزوح جديدة، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين بالمنطقة، وتطهير الحدود من المنظمات الإرهابية، أي حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية، والمساهمة في زيادة أمن الحدود التركية.
حينها التحق خالد زوج رنا بقوات الجيش السوري الحر، بعد إعلان وسطاء لها عن تعويضات تركية لأهالي قتلى المعارك والمصابين تتمثل في منح الجنسية التركية للأحياء منهم ومن عوائلهم، وإعانة شهرية لهم من الحكومة بقيمة 100 دولار، وتوفير اللجوء لهم في حال احتياجهم، ونقل المصابين منهم للعلاج داخل تركيا.
جاء العرض بينما كان خالد عاطلا عن العمل بعد تهدم المدرسة التي كان يعمل بها في حلب، وكان يبحث عن حل لتدبر التزامات زوجته وطفليه 8 و11 عاما، اللذين باتا محرومين من التعليم أيضا، إضافة لخشيته من أن يتعرض وأسرته في أي لحظة لقصف منزله خلال الحرب الدائرة ببلده، وفشله في الهرب بذويه من سوريا.
دفعت هذه العوامل زوج رنا لأن يختار التطوع للقتال مع صفوف الجيش السوري الحر بجوار القوات التركية في عملية “درع الفرات”، وبالفعل لقي حتفه هناك، وحسب شهادة أرملته، “أخطرتُ عبر زميل له في كتيبته أنه لقي حتفه إثر انفجار وتحول إلى أشلاء وأخبرها زميله أنه سوف يتولى إخراجها من سوريا”.
وبالفعل تم نقلها مع عوائل قتلى آخرين تحت حماية الجيش التركي من حلب إلى الأراضي التركية، وتعيش حاليا مع طفليها داخل أحد مخيمات اللجوء تتلقى راتبها الشهري من الحكومة التركية، وتنتظر دورها في انتقالها إلى منطقة سكنية داخل تركيا وإلحاق أبنائها بإحدى المدارس التركية.
في 20 يناير 2018 أعلن أردوغان تحرك قواته لاحتلال منطقة عفرين السورية بذريعة تحريرها من سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهو الهدف الذي أعلن تحققه في مارس من نفس العام. عبدالرحمن، طبيب أسنان مصري مقيم في تركيا، قاتل ضمن قوات فصيل “أحرار الشرقية” إلى جوار القوات التركية خلال معركة عفرين، انضم إلى القتال في صفوفهم عابرا الحدود التركية عبر وسيط تجنيد زكاه لديهم، دافعه الحقيقي للانضمام كان “التحصل على بعض المكاسب التي نالها سابقوه في عملية درع الفرات”، وذلك بعد تدهور أوضاعه المادية في تركيا، حيث ظل سنتين عاطلا عن العمل بعد هربه إليها عبر رحلة طويلة بدأت من مصر إلى السودان مرورا بماليزيا، ثم إلى تركيا محاولا النجاة من مصير السجن على خلفية حكم بالسجن المؤبد إثر اشتراكه في إحدى التظاهرات ضد النظام المصري عام 2014.
في تركيا لم يستطع الحصول على عمل إضافة لتأخر الإعانات الشهرية التي يقدمها تنظيم الإخوان لعموم الهاربين إلى تركيا، ومن ثم انتقل عبدالرحمن إلى سوريا وانضم لفصيل “أحرار الشرقية” مشاركا في عملية نبع السلام، التي يروي في شهادته عنها أنها كانت صدمة على كافة المستويات قائلا “هالتني هناك مشاهد قتل للأكراد وتخريب ونهب منازلهم ومحالهم التجارية من قبل المقاتلين واعتبار كافة ممتلكاتهم غنائم”.
لم تُغادره وحشية هذه المشاهد حتى أصيب بطلق ناري في عموده الفقري، عاد على إثره إلى تركيا ليتلقى العلاج إضافة لخضوعه لعلاج نفسي سببه كما يراه “تأثير مشاهد الموت والدمار التي عانى منها هناك دون أن يكون مستعدا لها”.
أما عزالدين، فهو يُقاتل حتى الآن في صفوف “جبهة تحرير الشام” التي بدأت علاقته معها منذ عام 2013، وتحت لوائها يحمل السلاح حاليا إلى جوار الجيش التركي في إدلب، والتحق بالقتال في سوريا حين كان عمره 16 عاما، حيث أتم وقتها دراسته الثانوية بأحد المعاهد الأزهرية في جنوب مصر، ووالده كان قياديا بإحدى الجماعات الجهادية ووفق ما تعلمه منه فإن وجوده في سوريا “فرض عين دفاعا عن الأطفال والنساء الذين يبيدهم النظام السوري بالأسلحة الكيماوية، ولهذا استأذن والديه في الالتحاق بالمجاهدين في أرض المعركة، ومن خلال جماعة والده تولى وسيط تهريبه إلى السودان، عابرا الحدود المصرية رفقة عصابة تهريب، وفي السودان التحق بمعسكر تدريب بدني ثم تأهيل عسكري في ساحات مفتوحة للتدريب تقوم فيها تنظيمات دين سياسي مختلفة بتدريب أعضائها على يد جنود مرتزقة أو مقاتلين عائدين من مناطق النزاع في سوريا والعراق وأفريقيا”.
أردوغان يواصل سياسية الهروب إلى الأمام رغم الهزيمة الكبيرة التي لحقت بقواته شمال سوريا، وعلاقته بالجانب الروسي على المحك
لم تطلْ فترة بقاء عزالدين في السودان، إذ دبر له المجاهدون، كما يصفهم، أوراق السفر إلى تركيا، ورتبوا له لقاء مع وسطاء التهريب الذين قاموا بنقله إلى سوريا، في إحدى مناطق تمركز جبهة تحرير الشام.
تحفظ عزالدين على ذكر الكثير من التفاصيل بدعوى أنها تعرض المجاهدين للخطر، لكنه يرى أن ما ذكره معلوم لأجهزة الدول العربية والغربية، لكنه يفتخر بمشاركته في العديد من العمليات ضد قوات الأسد وأعوانه، وبعدد من أزهق من أرواح في صفوف قوات العدو بعد تعلمه القنص.
ويرى أنه بات متميزا في القنص ويتباهى بمهارة إخوانه المجاهدين من عمر السادسة عشرة وحتى الستين، والذين باتوا في نظره “أقرب إليه من كل الخلق، رغم اختلاف جنسياتهم وأعراقهم، إلا أن الإيمان وراية الجهاد في سبيل الله جعلتهم إخوة”.
ويُقيِّم عزالدين التدخل التركي في سوريا، فيقول “خير معين إسلامي ضد بشار المدعوم من روسيا وضد الأكراد المدعومين من أميركا وضد قوات المعارضة الشكلية التي تخدم أجندات دول صليبية، وما أشرفها الشهادة حين تكون وسط إخواني من الجبهة وأبطال الجيش التركي”.
لكنه في نفس الوقت يؤكد أن “الوضع الحالي في إدلب شديد الصعوبة على المقاتلين حيث يتقدم النظام السوري وتدعمه روسيا وإيران مُلحقا الخسائر بالقوات التركية وحلفائها، وإخوانه ومعهم الجيش التركي يلحقون خسائر مماثلة بقوات الجيش الوطني السوري والأكراد”، دون تحديد لفصيل كردي إنما كل من يحملون الصفة في المطلق.
وفق ما يتردد بين مقاتلي جبهة تحرير الشام، فإن عزالدين يؤكد أنه رغم “خسارة الجيش التركي للعشرات من مقاتليه، غير أنه لا مجال للتراجع عن المعركة مهما كانت الخسائر، لأن خسارة إدلب تعني هزيمة محققة لجبهته وللجيش التركي، وهو ما لن تقبل به تركيا، لأن القيادة التي تُنسق مع تركيا أكدت لجنودها أن السبب الحقيقي لمقتل الجنود الأتراك، يرجع لعدم وجود غطاء جوي يدعمهم، وهي نقطة حرجة وعد الجيش التركي بتدبرها خلال الأيام المقبلة، بما يضمن أن تستمر المعركة حتى تحقق أهدافها”.
إنها الأهداف التي تم تلقينها لكل جندي في الجبهات المقاتلة بجوار الجيش التركي، والتي يُلخصها عزالدين قائلا “أهدافنا هي تمكين تركيا من المناطق التي حددتها في إدلب وإرجاع قوات نظام الأسد وحلفائه إلى ما بعد نقاط المراقبة التركية، بما يضمن وجود منطقة آمنة لجماعات المعارضة المسلحة ضد قوات النظام السوري”.
وضع العالم أمام خيارين
وفق تلك الشهادات يبدو أن معركة إدلب لن تنتهي سريعا. فالتنظيمات المسلحة مستعدة للقتال حتى الموت. ويستهدف أردوغان وحزبه منذ عقود إبادة المكون الكردي بدءا بقوانين أقرها البرلمان التركي عام 2005 تعتبر أي تعاون مع الأحزاب الكردية يعادل جرم عملية إرهابية، مرورا بترحيل عدد كبير من الأكراد المقيمين في بلدات الحدود التركية، إضافة إلى التضييق عليهم داخل تركيا في كافة مناحي الحياة، وصولا إلى التدخل العسكري ضد أماكن تواجدهم في العراق وسوريا أملا في إبادتهم تماما.
على صعيد المعركة منيت قوات أردوغان بهزيمة جعلته في مأزق أمام الرأي العام، ما يستدعي أن يبدو منتقما للقتلى من جنوده، وذلك يعني الاستمرار في المعركة بينما يضغط على المجتمع الدولي بورقة اللاجئين التي بدأت بتهديد ثم اتخذت خطوات في التنفيذ، حيث فتح الحدود بالفعل غير عابئ باللاجئ السوري الذي سوف يعبر الحدود، ثم تقابله قوات حرس حدود دول أوروبا بالغاز المسيل للدموع ويتحول الآلاف إلى عالقين على الشريط التركي الحدودي.
وهنا يوضع العالم بين خيارين، إما ترك أردوغان في سوريا وإخلاء المناطق التي أراد إخلاءها وتسكين التنظيمات المسلحة حيث شاء وإعادة اللاجئين إلى المنطقة التي يقول إنها ستكون آمنة بعد تطهيره لها من قوات الجيش الوطني السوري والمكون الكردي، أو أن يغرق العالم باللاجئين سواء كانوا حقيقيين أو دُسّتْ بينهم عناصر تعيد إلى أوروبا فزع العمليات الإرهابية من جديد.