معالجة شاعرية عميقة للاغتراب والفقدان

فيلم الخيال العلمي "نجمة سمكة" عن امرأة معزولة تواجه خرابا كونيا غامضا.
الاثنين 2020/03/02
صدمة الفقدان وسط الخراب

الغياب حقيقة تلاحق الكائن البشري ويعدّها مسألة قدرية لا خلاص منها، إنه الغياب الافتراضي الذي انشغلت به العديد من تجارب سينما الخيال العلمي، وهو أيضا مقترن بالفقدان، فقدان البشر أو غيابهم في أنواع شتى من المعالجات للديستوبيا الأرضية.

انشغلت سينما الخيال العلمي في العديد من أفلامها بثيمة الغياب والفقد، أو ما يعرف بـ”أبوكاليبس”، حيث تظهر شخصية الفرد وهو يشهد فناء المكان وغياب الناس، وكيف يواجه الظروف المستجدة من حوله؟

من هناك، تظل الشخصية المعزولة محور هذا النوع من الأفلام، وربما تتجسّد في بضع شخصيات وهي تتكيّف مع واقعها الجديد. وفيلم “نجمة سمكة” للمخرج آي تي وايت لا يحيد عن هذا التمشي، مع معالجة عميقة ومليئة بالشجن والجرأة أيضا في صناعة الأحداث.

هنا سنكون مع الفتاة الشابة أوبري (الممثلة فيرجينا غاردنر)، وهي الشخصية الرئيسية التي قادت الأحداث ببراعة، هي بكل بساطة مفجوعة برحيل صديقة عمرها.

تلك الصدمة ستعود بها من بلاد بعيدة كانت تعيش فيها إلى حيث تقيم صديقتها لغرض تأبينها، ويدفعها الحنين إلى دخول بيت تلك الصديقة لاسترجاع ما كان من ذكريات بينهما.

نستنتج أن الأحداث تقع في الحقبة الزمنية التي كانت فيها أشرطة الكاسيت وأجهزة التسجيل الكبيرة هي السائدة، ربما هي السبعينات أو الثمانينات من القرن الماضي، وهي التفاتة ذكية من المخرج، حيث أحالنا ذلك الاستخدام البسيط لتلك الأجهزة إلى حقبة زمنية بعينها.

تسترجع أوبري بالمزيد من الشجن وبمناجاة حزينة ذكرياتها وتحضر صديقتها في خيالها وتتناجيان حتى الصباح، فلما يحل النهار تفاجأ الفتاة بأن المدينة مقفرة من سكّانها وأنها مدينة أشباح، دون أن تعرف لذلك سببا. على أن أوبري في أثناء مناجاتها مع صديقتها، روت لها صديقتها من خلال تسجيل سابق أن هناك أصواتا في الخارج لا يمكن احتمالها.

نحن هنا، مع شخصية واحدة وحيدة هي أوبري في عالم ديستوبي وخراب كوني شامل لا تُعرف أسبابه، سوى لقطة واحدة تظهر إشعاعات غريبة وكائنا عملاقا يمرّ في الفضاء مثل أخطبوط هائل، ثم يختفي.

بعد ذلك، يصنع المخرج ببراعة ملفتة للنظر أجواءً مشبعة بالشاعرية والجمال، لاسيما مع تنقل أوبري من البحر إلى الجبال فالمناطق المتجمدة، حيث تلوح كرة بلورية ضخمة تنجذب إليها الكائنات فتغيب، وتنجذب إليها أوبري بدورها.

فيلم "نجمة سمكة" يمزج ببراعة بين كارثة الفقدان والخراب والتأمل الشاعري العميق

السرد الفيلمي والتنوع المكاني مع الحوارات القليلة التي تبرز فقط في المناجاة الذاتية، عوامل تتكثّف، لن ترافقها سوى الموسيقى التي كانت سائدة في زمن ماض من خلال أشرطة الكاسيت التي سوف تتحوّل إلى لازمة أساسية في هذا الفيلم.

تحضر مسألة الغياب والفقدان بقوة في الفيلم، وتتحوّل إلى خط مواز لبحث الشخصية الرئيسية عن ملاذ ومصير، إلاّ أنها وهي تجوس في المجهول لن تفارقها الفجيعة بفقدان الصديقة التي ترافقها، فتشعر أوبري بالذنب تجاهها، لأنها فارقتها منذ زمن.

في المقابل، يكون الانتقال المكاني هروبا آخر من واقع مدمر، وعلى الرغم من جماليات الأماكن، إلاّ أن الشعور بالأسى واللاّجدوى ظل يغلف كل شيء بغلاف شفاف وشاعري.

ربما يمكن القول إن القسم الأخير من الفيلم هو نص شعري – سينمائي مفعم بالحس الإنساني العميق، وهو أسلوب سدّ الكثير من الثغرات التي تتعلق بوجود ممثلة واحدة تقود أغلب الأحداث الفيلمية.

حفل الفيلم بانتقالات شعرية مرتبطة بالمشاعر العميقة، ومن ثم بالمكان وكأنه عودة إلى جميع تلك الأماكن التي كانت تجمع الفتاتين في الماضي. وحتى ذكريات أوبري الخاصة، والأكثر حميمية لا تظهر من وجهة نظرها إلاّ ظهورا هامشيا في مشهد كان يجمعها مع صديقها في الليل قرب البحر، لكن ما تلبث أن تطغى عليه شخصية الصديقة مجددا.

وما يلفت النظر في هذا الفيلم كثرة الانتقالات المكانية وتنوعها، والتي خفّفت من الحاجة إلى المزيد من الشخصيات والحوارات، ما يعيدنا إلى جوهر وروح السينما في كونها لغة التعبير بالصور، وهو ما عمّقته المعالجة السينمائية في فيلم “نجمة سمكة” بتكريس الصورة وتحميلها الكثير من الدلالات العميقة والمؤثرة.

ربما لم تظهر قوى متكافئة لتأسيس صراع درامي في هذا الفيلم، ولكن بناء شخصية أوبري كان كافيا لمنحنا متعة التفاعل مع الشخصية الواحدة التي تعيش وسط عالم ديستوبي، وقد حلت الكارثة التي أخفت البشر دون أن نعرف لذلك سببا.

والحاصل أن غياب الصديقة وغياب الإنسان الفرد كانا كافييْن بالنسبة إلى أوبري للتمهيد لغياب بشري كامل، وهي إشكالية نفسية فلسفية وجمالية عميقة أراد المخرج آي تي وايت أن يخوض فيها تاركا للمشاهدين التعمّق في تفصيلاتها ودلالاتها.

وبسبب تلك الشاعرية العميقة والبسيطة في آن واحد، تم تحميل الفيلم بالكثير من التفاصيل والدلالات التي بالإمكان تحليلها جماليا في نوع من الحسّ السينمائي الذي يمزج ببراعة بين كارثة الفقدان والغياب والخراب وبين الحنين الإنساني إلى الماضي، علاوة على التأمل الشاعري العميق، الشيء الذي أغنى الفيلم جماليا.

16