قدسية التراث جدل يتحول إلى عصف ذهني في الأزهر

رغم الملمح الهادئ الذي حاول الأزهر إسباغه على مؤتمر تجديد الفكر الإسلامي، الذي رعاه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، غير أنه تضمن إسقاطات سياسية، زادت من منسوب الانتقاد الموجه للأزهر الذي كان شيخه واضحا وصريحا في رفضه لدعوات تجديد الخطاب الديني.
القاهرة – تحوّل مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي من مناسبة تبحث سبل مواجهة الإرهاب والتطرف عبر تنقيح التراث وتجديد الثقافة الإسلامية، إلى مناسبة وضعت نقاطا على الحروف في ما يتعلق بقضية تجديد الخطاب الديني وموقف الأزهر منها، خاصة بعد السجال الذي دار بين شيخ الأزهر، أحمد الطيب، ورئيس جامعة القاهرة، محمد عثمان الخشت، الذي قال بضرورة تجديد التراث الديني بما يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث، وهذا لا يتضمن “ترميم بناء قديم” بل “تأسيس بناء جديد بمفاهيم حديثة” لتحقيق “عصر ديني جديد”، ليأتي ردّ شيخ الأزهر بأن “الفتنة الحالية سياسية وليست تراثية”.
لكن، لم تبق المسألة في حدود الحديث عن التراث وتجديد الخطاب، بل تجاوزتها إلى سجال أشمل تداخل فيه السياسي بالديني، وكان محوره الرئيسي الأزهر، وعلاقته بالسياسة والدين، خاصة وأن تصريحات شيخ الأزهر حملت مضامين سياسية.
وقال الطيب، في معرض رده على كلام محمد عثمان الخشت حول ضرورة إنتاج خطاب جديد لمواجهة التطرف الفكري، إن الحديث عن تجديد الخطاب الديني يستهدف تحقيق مصالح سياسية أكثر منها دينية، وعلى من يتحدثون بهذه النبرة أن يركزوا في قضايا أخرى، مثل الفشل في مواكبة الأوروبيين.
وأضاف “حتى سياساتنا تخضع للأوروبيين، وشخصيتنا كعرب ومسلمين انتهت، وكنت في منتهي الخزي وأنا أشاهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهذا الإسرائيلي (يقصد بنيامين نتياهو رئيس وزراء إسرائيل) يخططان ويحلان مشاكلنا ولا يوجد أحد عربي ولا مسلم”، في إشارة إلى المؤتمر الصحافي الخاص بالإعلان عن صفقة القرن.
وأكد أن “هذا هو المجال الحقيقي الذي يجب أن نحارب فيه، والحرب التي تستهدف الحداثة والتجديد مصنوعة لتفويت الفرص علينا كعرب.. إن الحرب الحقيقية أننا كعرب منذ قرن كامل لم نستطع صناعة إطار سيارة.. لا أتحدث عن السيارات والأسلحة التي تباع لنا ليقتل بعضنا البعض.. نحن نشتري الموت بأموالنا، أرجوكم ابحثوا عن مشكلة غير التراث”.
كان يمكن أن يمر مؤتمر الأزهر دون أن يثير هذا الضجيج، لولا السجال الذي دار بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة، وهو سجال يقول متابعون إنه ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لخلاف صامت بن الأزهر وأصحاب دعوات التجديد، ومنهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بسبب التباين في وجهات النظر حول جوهر التجديد في الخطاب الديني وما يجب تنقيته وتحديثه ليواكب العصر ويتصدى للتشدد الديني.
ورغم أن شيخ الأزهر حرص على مدح الرئيس المصري، ورعايته للمؤتمر، إلا أن ذلك لم يلغ فرضية الخلاف بين الأزهر والحكومة. ويذكر المتابعون بمناسبات سابقة شهدت خلافا بين الطرفين من ذلك رفض شيخ الأزهر دعوة السيسي إلى عدم الاعتراف بالطلاق الشفوي كإحدى الوسائل للحد من ارتفاع نسب الطلاق في المجتمع. وخلال المؤتمر الأخير، بدا الأزهر واضحا وصريحا في رفضه لدعوات الحكومة بضرورة تجديد الخطاب الديني، ومعارضته لأطروحات بعض التيارات الفكرية بشأن الإصلاح.
لا نوايا للتجديد
رأى البعض أن هجوم الطيب على منتقدي التراث والدعوة إلى الاهتمام بقضايا سياسية إقليمية ودولية، عكس حسم مؤسسة الأزهر لموقفها من دعوات تجديد الخطاب وتحديث الفكر الديني، وأنه لا نية للسير خطوة واحدة في هذا الطريق تحت ذريعة أنه مطلب يلجأ إليه السياسيون للتغطية على أزمات أخرى، ما ينذر بتصاعد حدة الصدام بين الحكومة والأزهر في المستقبل القريب.
ورأى عمرو هاشم ربيع، الخبير السياسي في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، أن حديث الطيب يبرهن على أن العلاقة بين الحكومة والأزهر وصلت إلى مستويات متقدمة من الخلاف، وما حدث مؤخرا يمثل واحدة من حلقات الصراع الخفي بين الطرفين والمؤشرات تنذر بارتفاع حدة التوتر قريبا.
وقال في تصريح لـ”العرب”، إن تكرار تطرق شيخ الأزهر إلى قضايا سياسية بشكل يثير غضب الحكومة، لكنها لن تغامر بالإطاحة به من المنصب، في ظل استقواء الرجل بظهير شعبي قوي، وعبر ميراث الأزهر وفتاواه المقدسة لدى الكثيرين، وما يمكن أن تناكفه به، أن تُبقي مختار جمعة وزير الأوقاف في منصبه، باعتبار أن علاقة الطيب بجمعة يشوبها التوتر والخلاف والعداء والمناكفة.
فصام بين تيارين
عكست المناظرة الفكرية الساخنة بين الطيب والخشت حالة فصام تام بين تياري الحداثة والمحافظة في الفكر الديني. وبات من الواضح غياب اللغة المشتركة بين الطرفين، ما تمثل في محاولة كل طرف تخطئة الطرف الآخر، ما أدى إلى وأد أي أمل في تجديد حقيقي للفكر، والاستمرار على حالة الجمود الحالية.
ويتمثل الطرح الحداثي في ضرورة تنحية التراث الإسلامي جانبا وإعادة صياغة فقه وفكر إسلامي عصري يستمد أصوله من القرآن الكريم، والسنة الصحيحة المؤكدة، بينما ترى مؤسسة الأزهر أن ذلك التراث كان على مدى قرون من الزمان الحصن الحقيقي للدين والدافع المباشر لانتشار الدين شرقا وغربا.
ورأى مفكرون، أن البيان الختامي للمؤتمر نفسه قطع الطريق على فكر التحديث الديني المطروح دوما من جانب الدولة كإحدى أدوات مواجهة التطرف والإرهاب.
وكان من الغريب أن المؤتمر الذي حمل عنوان التجديد، واتفق في كونه لازما من لوازم الشريعة الإسلامية، عاد وقرر أن هناك أمورا قطعية الثبوت وقطعية الدلالات لا تحتمل أي اجتهاد، كما أن عملية التجديد قاصرة على المؤسسة الدينية وحدها، إذ أشار المؤتمر إلى ضرورة قصرها على الراسخين في العلم، وهم بالطبع علماء الأزهر فقط.
وعلى الرغم من إعلان المؤتمر للرفض التام لأفكار التكفير والحاكمية والجهاد ضد الآخر، إلا أنه لم يقدم أطروحات عصرية لسد الطريق على أفكار التطرف المستمدة من نصوص ترجع في الأصل إلى التراث الديني والذي يعتمده الأزهر كمنهج للتعليم.
وقال أحمد سالم، أستاذ الفلسفة في جامعة طنطا، شمال القاهرة، لـ”العرب”، إن حديث شيخ الأزهر جاء كاشفا لوجود مسافة كبيرة بين المؤسسة الدينية والتصورات الخاصة بالتجديد والإصلاح الديني، فالتحديث وتطوير الفقه أمر غائب تماما في أداء المؤسسة خلال السنوات الماضية.
وطرح سالم عددا من الملاحظات بشأن خطاب شيخ الأزهر خلال المؤتمر والتي تؤكد ذلك الغياب، فقد قال إن “لدينا العشرات من الجامعات في مصر وقد أخفقنا في صناعة إطارات السيارات، معترفا بإخفاقه هو نفسه في تطوير جامعة الأزهر حينما كان رئيسا لها، وهو ما يعني اعترافه بتدني مستوى التعليم حتى العجز، والتساؤل كيف لهؤلاء أن يقوموا بتجديد الفكر الإسلامي”.
وأشار إلى أن “السياسة تختطف الدين، ولكنه حين ضرب مثالا على ذلك استعان بالحروب الصليبية وتوظيف التوراة من قبل إسرائيل، ولم يشر إلى توظيف السياسي للديني عبر تاريخ الإسلام، وهو أمر غريب إذ أن الأمثلة متنوعة ومتعددة عبر التاريخ في الإسلام أكثر من غيره وتثير اللبس وتستمد أصولها من كلام الفقهاء، وهي المعين الأول للقوى الراديكالية على الحركة والعمل”.
في المقابل، أخطأ الخشت، عندما طرح أفكاره بشأن فكر ديني جديد ومتطور حين تجاهل طبيعة المؤسسة التي ذهب لإلقاء كلمة فيها، وهي مؤسسة محافظة لا يمكن أن تقبل بما جاء في كلمته ولهذا تعرض للهجوم الشديد من قبل حراس الدين والعقيدة، كما بدا واضحا، وانعكس ذلك في حالة اهتزازه الشديد على المنصة.
وأضاف سالم “بدا واضحا أن شيخ الأزهر ضاق ذرعا بمقولة التجديد، وكان حادا ومتعمدا لإهانة مناظره في جلسة بدت مسرحية أكثر منها مناقشة علمية جادة”.
وأكد عصمت نصار، أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة بني سويف، جنوب القاهرة، أن المناظرة كشفت بوضوح ضعف مستوى تقبل الرأي الآخر لدى المؤسسات الدينية. ولاحظ أن التصفيق المتكرر من جانب طلبة وعلماء الأزهر لكل ما يقوله شيخهم يعكس أحادية في الفكر ورفضا للآخر وشعورا باحتكار اليقين لدى بعض المنتمين إلى المؤسسة الدينية، ما يشي بوجود حالة من التربص الدائم تجاه كل ما لا ينتمي إلى المؤسسة، ما يدفعهم إلى القول بعدم جواز الحديث في مسائل الدين إلا لمن ينتمي إلى الأزهر.
وقال لـ”العرب”، إنه من الغريب أن ما طرحه الخشت من تصورات للتجديد والتحديث لم يكن جديدا وسبق ونادى به الكثير من الشيوخ الأزهريين العصريين مثل الإمام محمد عبده، وعبدالمتعال الصعيدي.
غير أنه يتصور أن هناك بعدا خفيا في الأمر يتمثل في أن الأزهر سبق واعترض رسميا على تصور للرئيس المصري نفسه بشأن وقوع الطلاق الشفهي، على الرغم من أن هناك علماء سابقين كانت لهم اجتهادات عظيمة في ذلك.
أبعاد سياسية
رأى المتابعون للمؤتمر، وتحديدا كلمة أحمد الطيب، أن حديث شيخ الأزهر تجاوز إطار المناسبة المحدد لمناقشة قضية تجديد الخطاب. وهو حدث أظهر موقف الأزهر من القضية، كما كشف أيضا أن الأزهر غير قادر على استيعاب أهمية طرح تجديد الخطاب الديني وضرورة الخروج به من مسار التكليف الوظيفي والصفقات السياسية، ليكون مراجعة مصيرية، يستفيد منها الأزهر بالدرجة الأولى.
وأصبحت السياسة جزءا من واقع الأزهر الذي تحول تدريجيا في مصر إلى سلطة دينية موازية لسلطة الحكومة التي سمحت، على مراحل متعددة، لرجال دين وشيوخ يعملون في هذه المؤسسة متنامية النفوذ بالتدخل في الحياة السياسية والثقافية والفنية والاقتصادية وأمور يومية لمواطنين عاديين.
وينزل المتابعون الخلاف بين الأزهر ووزارة الأوقاف ضمن سياسات الحكومة لتقلص نفوذ المؤسسة الدينية. وهذا الأمر يفسر، وفق الخبراء الذين تحدثت معهم “العرب”، إقحام شيخ الأزهر لقضايا سياسية حساسة مثل القضية الفلسطينية وصفقة القرن في رده على المواقف المطالبة بتجديد الخطاب الديني.
وقال سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، إن خطورة الإسقاطات السياسية لشيخ الأزهر، تكمن في أنها قد تصنع متمردين جددا على بعض سياسات حكومات عربية تضطر في بعض الأحيان للتعاطي بشكل دبلوماسي مع أزمات إقليمية ودولية، وهو ما يرفضه الطيب، بذريعة أن ذلك “نوع من الخنوع والخضوع لأوروبا”.
وأوضح في تصريح لـ”العرب”، أن شيخ الأزهر يريد أن تتحرر مؤسسته بشكل مطلق، ليمارس دورا سياسيا لا يرتبط بتوجهات الحكومة المصرية على المستوى الدبلوماسي، بحيث يظهر في صورة المؤسسة الأكثر جرأة التي تتحدث بلسان العامة، لإحراج الحكومة التي تحكمها مصالح دولية، حتى يرمم شعبيته التي تراجعت.
وأشار إلى أن ابتعاد الأزهر عن أزماته الداخلية للحديث عن قضايا إقليمية ودولية، يعكس إصرار هذه المؤسسة على القيام بدور سياسي ومن يركز في مضامين رسائلها يكتشف أنها تعبر عن انتقائية واضحة. وتحدث الطيب عن استيراد الدول العربية للأسلحة لقتال بعضها، ولم يتطرق إلى العدوان التركي على ليبيا، والدعم القطري للإرهابيين وتسليحهم وحتمية وجود تدخل عربي لحماية الشعب الليبي وفرض الاستقرار هناك، وتجنب التهديد الإيراني للخليج، وبدا وكأنه يخشى الصدام مع الإخوان والسلفيين الذين تعج بهم جامعة الأزهر، على مستوى الطلاب أو الأساتذة.
وأكد صادق “أن التصفيق الحاد خلال المؤتمر على الإسقاطات السياسية للطيب، يعكس نجاح الأزهر في تكريس السلفية كمنهج فكر لدى الشارع، واستثماره المؤسسة حالة الأمية السياسية لدى أغلب الناس، واللعب على وتر الشارع الغاضب من الولايات المتحدة وإسرائيل ومنح حكومات عربية الأولوية لتعظيم قدراتها العسكرية.. هذا لا يُفهم إلا على أنه تحصين لمنصب الإمام الأكبر، حتى إذا تم تهميشه، يوحي بأن الحكومة تعاقبه على أنه تحدث بلسان الشارع”.