لبنانيون يحزمون أحلامهم ويرحلون مع الحسرة

حاول اللبنانيون الشباب الصمود والاستقرار في بلادهم رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي أدت إلى احتجاجات ما زالت متواصلة من أجل إصلاح الحكومة وإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، لكن ظروفا ومؤشرات عديدة دفعتهم مجددا إلى التفكير في الهجرة حاملين في حقائبهم أملهم بعيش كريم بات مستحيلا في بلد ينخره فساد الساسة وانتشار البطالة.
بيروت- مع بدء الحراك الشعبي ضد الطبقة السياسية قبل أشهر، ظنّ شبان لبنانيون كثر كانوا يحلمون يوماً بالهجرة بإمكانية بناء مستقبلهم في بلدهم، لكن الحلم لم يدم طويلاً بعدما أطاح به تسارع الانهيار الاقتصادي.
وبعدما شاركوا في التظاهرات التي عمّت كافة الأراضي اللبنانية منذ 17 أكتوبر رافعين الصوت ضد طبقة حاكمة يتهمونها بالفساد، يملأ طلاب وشبان اليوم طلبات الهجرة للعمل أو إكمال تعليمهم في الخارج.
والأمهات اللواتي هتفنّ يوماً متهمات الطبقة السياسية بدفع أولادهن إلى الهجرة، بدأن بتحضير أنفسهنّ لوداعهم، في بلد يشهد انهياراً اقتصاديا متسارعا يُعد الأسوأ منذ الحرب الأهلية، ولا حلول واضحة في الأفق، سوى وعود حكومة جديدة وضعت الأزمة على سلم “أولوياتها”.
يذكر أن الرئيس اللبناني ميشال عون دعا في تصريحات تلفزية باللهجة العامية مواطنيه للهجرة ما أثار جدلا وردود فعل غاضبة في الشارع اللبناني، حيث طالبت النائبة بولا يعقوبيان ساخرة، الرئيس عون بالمغادرة “إذا لم يعجبه الشعب”.
و قال أحد المتظاهرين “نحن أولاد البلد ولن نهرب”، بينما قال آخر بانفعال “لن نهاجر، لن نترك بلدنا”.
ونفّذ عدد من الشبان اللبنانيين اعتصاما أمام السفارة الكندية في جل الديب للمطالبة بفتح باب الهجرة أمامهم، والتقت ممثلة السفارة المعتصمين وطلبت منهم “رفع كتاب رسمي بمطالبهم إلى السفارة”.
يقول يوسف نصار، المصور السينمائي في الـ29 من العمر، “سأذهب من دون رجعة” بعدما حجز تذكرة سفره إلى كندا، مضيفا، “لا شيء يجري بشكل جيد في هذا البلد لكي أبقى فيه”.
ومنذ أشهر، يواجه لبنان شحاً في السيولة مع ارتفاع مستمر في أسعار المواد الأساسية وفرض المصارف إجراءات مشددة على العمليات النقدية وسحب الدولار.
ودفعت هذه الأزمة من لهم مدخرات في البنوك إلى الأسراع للحصول على أموالهم سواء عن طريق شراء الحلي أو السيارات أو الأراضي ببطاقات الائتمان أو الشيكات المصرفية، في حين بدأ آخرون في إخفاء المال في بيوتهم.
وتُهدد الأزمة اللبنانيين في وظائفهم ولقمة عيشهم، وقد أغلقت العديد من المتاجر والشركات أبوابها، وتلقت وزارة العمل عشرات الطلبات بالصرف الجماعي، ما يؤدي حكماً إلى ارتفاع نسبة البطالة.
وقال الوزير السابق ورئيس جمعية الصناعيين السابق فادي عبود، إنه “إذا استمرت الأوضاع في المنحى الذي تسير به، فإن النصف الأول من العام الجاري سيؤدي إلى خسارة 50 ألف فرصة عمل في القطاع الصناعي ما يرفع من معدلات البطالة”.
ويعيش ثلث اللبنانيين أساسا تحت خط الفقر، بينما يبلغ معدل البطالة ثلاثين في المئة في صفوف الشباب. ويحذر البنك الدولي من ارتفاع هذين المعدلين نتيجة الانهيار الحالي.
يقول نصار، “بّت أكره هذا البلد” بسبب الطبقة السياسية التي ترفض مغادرة السلطة ولا تجد مخرجاً للأزمة في الوقت ذاته. واعتاد نصّار على كسب ما يكفيه من المال لتصويره حملات لشركات أزياء أو إعلانات أو غيرها، لكنه ومنذ أشهر لم يعمل سوى مرة واحدة.
ولا يزال ينتظر الحصول على أتعاب بقيمة 25 ألف دولار من سبع زبائن، بينهم نائب في البرلمان، إلا أنهم لا يتمكنون من سدادها. ويقول نصار، الذي يحمل أيضا الجنسية الكندية، “أريد أن أعمل على تطوير مهنتي ومن أجل مستقبلي”، مضيفا، “لست مستعداً لأن أنتظر طوال حياتي كي يتحسن حال البلد”.
وشهد لبنان موجات هجرة عدة في السنوات الماضية، أي في مرحلة ما بعد الحرب نتيجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية السيئة. وبعد اشتداد الأزمة الاقتصادية اليوم وتوقّع تفاقمها في المرحلة المقبلة، حيث تقف البلاد على شفير الانهيار، يستعد العدد الأكبر من اللبنانيين إلى شدّ الرحال والانطلاق نحو عالم جديد.
وعلى الرغم من ازدياد صعوبة السفر والعمل في الخارج، ما يزال اللبنانيون يحلمون بمغادرة البلد بفورة عاطفية والظروف التي يعيشها الشباب خاصة، إذ بلغ عدد اللبنانيين الذين غادروا البلاد من دون عودة في العام 2019 إلى حوالي 72 ألف مواطن.
تشير تقديرات إلى أن عدد اللبنانيين في الخارج يساوي أكثر من ضعف عدد سكان البلاد الذي يتجاوز أربعة ملايين نسمة
وعلى معرفات البحث في غوغل، بلغ معدل البحث عن كلمة “هجرة” في لبنان بين شهري نوفمبر وديسمبر حده الأقصى خلال خمس سنوات. ولم يعد محامون يعملون في ملفات الهجرة يمتلكون أوقات فراغ، إذ تنهال عليهم طلبات الراغبين بالذهاب إلى كندا أو أستراليا أو غيرهما.
يقول أحد المحامين، فضّل عدم الكشف عن اسمه، إن “الطلب على الهجرة ارتفع بنسبة 75 في المئة”، مشيرا إلى أنه يعمل حالياً على 25 طلباً، غالبيتها إلى كندا. وغالبية زبائن المحامي هم من الشبان المتعلمين وأصحاب الاختصاص، منهم من يعمل في الصيدلة أو في تكنولوجيا المعلومات او الشؤون المالية. ويضيف المحامي “جميعهم يغادرون بسبب الوضعين الاقتصادي والسياسي”.
وعلى وقع اقتصاد متهالك وأزمات سياسية متتالية، تحول لبنان على مر السنوات إلى بلد مصدّر للمهاجرين. وبرغم عدم توفر إحصاءات رسمية، تشير تقديرات إلى أن عددهم يساوي أكثر من ضعف عدد سكان البلاد الذي يقدر بأكثر من أربعة ملايين نسمة. تشارك فاطمة، المهندسة في الـ28 من العمر، في التظاهرات ضد الطبقة الحاكمة منذ انطلاقها. وتقول الشابة التي حلمت بالهجرة منذ أن بلغت الـ16 من العمر، “حين بدأت الثورة شعرت للمرة الأولى في حياتي بالإنتماء، شعرت وللمرة الأولى أن العلم اللبناني يعني لي كثيراً”.
هذا الأمل لم يدم طويلاً بعدما فقدت فاطمة الشهر الماضي وظيفتها في منظمة غير حكومية دولية نتيجة تراجع التمويل. تقول فاطمة، “في هذه اللحظة تحديدا، تغير كل شيء بالنسبة لي، وبتُ لا أفكر سوى بالهجرة إلى كندا”.
وجدت فاطمة لنفسها محاميا وتجمع حالياً الوثائق اللازمة لتبدأ معاملة الهجرة، وتقول “لا قوة لي على المحاربة أكثر” من أجل بلد أفضل. وتضيف، “لا أعتقد أني سأخذل وطني بمغادرتي، لكني سأفشل بالطبع إذا بقيت هنا”.