البابا فرنسيس والبابا بنديكت.. مواجهة بين رياح التغيير وتقاليد الكنيسة

فيلم "الباباوان" يتناول مأزق الكنيسة مع التطور والأخطاء التي ارتكبها الكرادلة سواء أثناء تأدية المهام الكنسية أو عند استغلال حالة ضعف الناس الساعون للغفران.
السبت 2020/01/04
أحدث وجوه نتفليكس المثيرة

تابع العالم الأزمة التي واجهها البابا فرنسيس خلال الأسبوع الجاري، حين عرضت صوره وهو يضرب يد إحدى السيدات وهي تحاول جذبه إليها، قبل أن يعتذر عن ذلك. قبلها لم تكن صورة البابا الغاضب مألوفة، كما لم تكن صورة البابا اللطيف الذي يعتذر مألوفة أيضاً. وخلال الفترة الماضية قدمت شبكة نتفليكس بدورها صورة أخرى عن البابا القديم والجديد، نحاول هنا أن لا نقرأها على أنها مجرد فيلم بل كصورة شخصية لرجلين وثقافتين واتجاهين.

 ”ماذا عن قداسته؟“، تجيب الكاهنة إنه يفضل أن يأكل وحده، لكنه أوصى أن تشاركه نفس الوجبة التي كانت تعدها والدته، وبإشارة ضمنية من عينه عبر البابا المستقبلي أن الأكلة لم تعجبه. لكنه سيتناولها مع ذلك، هذا مشهد من فيلم “الباباوان” الجديد، من بطولة أنتوني هوبكينز، متقمصا بامتياز دور البابا بنديكت السادس عشر، رفقة الممثل جوناثان برايس الذي يؤدي دور الكاردينال خورخي ماريو بيروجليو، الذي سيصبح فيما بعد البابا فرنسيس. وهكذا، كل تفصيل وكل جزئية في الفيلم لهما مكانتهما ودورهما وهدفهما الاستراتيجي الذي أراده المخرج  فرناندو ميريلز، فليس من باب الصدفة أن يتناول البابا عشاءه في غرفة طعام والباب موارب، فيما تحولك عين كاميرا المخرج إلى الجهة الأخرى لتوصلك إلى غرفة مفتوحة ترى فيها الكاردينال بيروجليو الآتي من تجربة وبيئة مختلفتين يتناول طعامه بكل اطمئنان ومحبة.

بعد ذلك العشاء عزف البابا بنديكت قطعة موسيقية من تأليف التشيكي الرومانتيكي بيدريش سميتانا، وهو الموسيقي المفضل لديه. فراقبه الكاردينال بانتباه وإعجاب شديدين لتعصف بذاكرته صور عائدة إلى ما مضى من حبه لأماليا.

الفيلم يريد أن يقارب فكرة العلم والتكنولوجيا كحقائق علمية مقابل فكرة روحية. فلمن ستكون الغلبة؟ زميلة الكاردينال في العمل قالت له إن البلد لا يحتاج إلى كاهن آخر، وتنبأت له بمستقبل عائلي رائع وأنه سيكون أبا حنونا، وإذا برياح أخرى تهب فتحوّل المركب في اتجاه آخر حيث سيكون بابا الكنيسة الكاثوليكية؛ لنكتشف أن التحول الذي عرفته حياة الكاردينال، من موقع بشر عادي إلى مركز روحي، أتى بعدما كان متوجها إلى منزل أماليا لتقوده رجلاه إلى كنيسة، متتبعا إشارة كان يبحث عنها جاءت في آخر لحظة تحول، منعطف، منعرج، وخيار كتب في جهة أخرى عليا، يدلف الكنيسة ويلتقي بالكاهن الذي يستقبله مرحبا ويؤكد له أنه صوت التغيير القادم من السماء.

اختلافات جوهرية

المحادثات بين القائدين الروحيين تعكس صورة عن البابوية وإرثا خفيا يعود إلى مئات السنوات من 264 بابا تبعوا خطوات القديس بطرس
المحادثات بين القائدين الروحيين تعكس صورة عن البابوية وإرثا خفيا يعود إلى مئات السنوات من 264 بابا تبعوا خطوات القديس بطرس

مع توالي الأحداث والتعمق في المباحث التي تناولاها معا بالمناقشة داخل كنيسة سيستين، على الرغم من الوقت القصير الذي جمع بينهما واختلافهما الكبير في النهج البابوي وطريقة التعاطي مع تجربة الحياة، فقد كان الطعام والشراب والموسيقى وتأمل لوحات جدارية مايكل أنجلو والاعترافات القاسية التي كانت بمثابة تطهير داخلي كل ذلك أسس لأرضية مشتركة بين البابا والكاردينال، تسامحا وصليا لبعضهما البعض وتشاركا البيتزا وقنينات فانتا في غرفة صغيرة خاصة. الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية، حول الكاردينال والبابا، لإظهار جزء من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الحديث، برصد اختلافاتهما الأيديولوجية والمزاجية والذوقية الكبيرة إلى حد المصادمة، الأمر الذي أثرى النقاش اللاهوتي والإنساني بين هاتين الشخصيتين المؤثرتين في مئات الملايين من المؤمنين المسيحيين.

يلتحق البابا بالكاردينال الأرجنتيني، ليقضيا معا ليلة ثرية بالمقر الصيفي للبابا في كاستل غوندولفو على بعد ثلاثين كيلومتراً من روما، ويستكملان معا اشتباكهما الفكري واللاهوتي الذي بدآه بينهما صباح نفس اليوم من عام 2012، أي قبل أشهر من إعلان البابا بيندكتوس استقالته التي هزت العالم الكاثوليكي بشكل خاص.

القصة متمحورة حول الصدق مع الذات والناس والتاريخ، قصة تتناول مأزق الكنيسة الرئيسي مع التطور والأخطاء التي ارتكبها الكرادلة ماديا وأخلاقيا سواء أثناء تأدية مهامهم الكنسية أو عندما يتم استغلال هؤلاء لحالة ضعف الناس الذين يسعون إلى الغفران والتسامح.

الحميمية التي تكونت بين الشخصين لم تلغ النمط الفكري والتصورات التي تدور في كنفها قيادة الكنيسة الكاثوليكية بخصوص مستقبل الدين المسيحي والعقيدة الكاثوليكية ودور الكنيسة في ظل التحولات الكبيرة التي يشهدها القرن الحادي والعشرون. أما الموسيقى التي تروق الكاردينال فهي صاخبة ساخنة عاصفة، لكنها لا تروق البابا المولع بالموسيقى الكلاسيكية، وبرنامجه المفضل كوميسار ريكس الذي يذيعه تلفزيون النمسا، “برنامج ممتع ويلهيني عن الأمور”، ليقول إنه ليس معصوما لكنه يستمتع بمفتايح البيانو حين يعزف أغنية برلين كابريه التي صارت مشهورة على المذياع قبل الحرب العالمية الثانية بسبب المغنية زارا لياندر ”كانت جميلة جدا وكنت معجبا بها جدا“.

في لحظة تمر فيها الكنيسة الكاثوليكية بمرحلة انتقالية وأزمة تصور قبل أن تكون أزمة عقيدة، تنفتح ثغرة في نظام كهنوتي صارم ظل لقرون محصوراً خلف جدران السرية والتقاليد الراسخة، وقد حاول الكاتب أنتوني مكارتن أن يقترب كثيرا من بعض التفاصيل التي حدثت في الاجتماعات الثلاثة بين البابا والكاردينال، بالاعتماد على أبحاث مستفيضة.

خلاصة المحادثات بين القائدين الروحيين صورة عن البابوية وإرث خفي يعود إلى مئات السنوات من 264 بابا تبعوا خطوات القديس بطرس، مناقشات تمس مسائل معقدة من الإيمان والطموح والمسؤولية الأخلاقية.

طُعم الاستقالة

قصة تنحي البابا بنديكت لا تزال تعتبر بمثابة صدمة للعالم المسيحي، وربما لن يعرف العالم  الأسباب الحقيقية وراء اختيار سيبقى إلى الأبد مكتوبًا في تاريخ الكنيسة
قصة تنحي البابا بنديكت لا تزال تعتبر بمثابة صدمة للعالم المسيحي، وربما لن يعرف العالم  الأسباب الحقيقية وراء اختيار سيبقى إلى الأبد مكتوبًا في تاريخ الكنيسة

لقد كانت أخبار تنحي البابا بمثابة صدمة، ربما لن يعرف العالم أبدًا الأسباب الحقيقية وراء اختيار سيبقى إلى الأبد مكتوبًا في تاريخ الكنيسة، وكانت مجموعة من الباحثين قد أكدت أن البابا قبل الاستقالة كان خائفا من شيء ما.

ولكي يعطي الاستقالة جوهرها الشرعي والأخلاقي استدل بنديكت بقصة البابا سلستين الخامس، الرجل الذي استقال من منصبه كبابا للفاتيكان، وللتاريخ فإن سلستين الخامس عُرِف بتأثيره القوي وإصلاحاته الواضحة، وقصة صعوده الملهم من خادم في كنيسة إلى أقوى رجل في الكنيسة الكاثوليكية كلها، ومن ثم تَركَ

هذا المنصب وقدّم استقالته محققًا سبقا تاريخيا لم يحدث قبله أو بعده. لكنْ أتت استقالة البابا الألماني متزامنة مع فضيحة للكنيسة، وكذلك في وقت تعيش فيه الكنيسة الكاثوليكية مرحلة انتقالية، وأزمة تصور قبل أن تكون أزمة عقيدة.

إنه سرد رائع ومكثف لتاريخ ما وراء الكواليس قبل انتخاب الكاردينال في عام 2013، كأول بابا من أميركا اللاتينية، وأول بابا يسوعي، وأول بابا يختار اسم فرنسيس. وفي النظام البابوي، تعتبر المحادثة المفتوحة عن الخلفاء من المحرمات، طالما أن البابا الحالي لا يزال موجودًا، لذا وفي ذروة اعترافاته كما جاء في سردية الفيلم، قال البابا مخاطبا الكاردينال ”لقد اتخذت قرار الاستقالة لمستقبل الكنيسة وأنت الشخص المناسب لخلافتي، سأستقيل“، قالها بحزم. أي أن بنديكت لم يتخل عن منصبه حتى اطمأن إلى أن خليفته سيكون الكاردينال الأرجنتيني.

وكمحاولة لثنيه عن قراره سأل الكاردينال البابا “لماذا يأتي رؤساء أميركا وروسيا والصين لزيارتك؟ لأنك بالمقارنة معهم سلطتك تأتي من كونك ستتألم وتموت أثناء قيامك بعملك شهيدا للعدالة والحق، لأجل ذلك يأتي كل الناس، لذا يجب أن يستمر البابا إلى الأبد. إن فعلت ذلك ستؤذي البابوية إلى الأبد“.

الإصلاح والاستبداد

صورة تحاول نتفليكس من خلالها الموازنة بين شخصيتين مختلفتين إلى حد التناقض وإعطاء الأفضلية للكاردينال كقائد كاثوليكي، أراد أن يتخلى عن السلطة الدينية والدنيوية التي كان يتمتع بها في الأرجنتين ورفض بشدة تولي منصب الحبر الأعظم.

اكتسب الكاردينال، وعلى مدى نصف القرن الماضي ككاهن وأسقف، أسلوبا خاصا في الاستماع إلى شعب الله وتعلم إدراك فعل الروح القدس في تاريخ البشرية، وانطلاقا من هذه الجزئية الهامة يسأله البابا ”هل شعبيتك الكبيرة نابعة من حيلة ما؟“، ليجيبه الكاردينال ”إنني أتصرف على طبيعتي“، في المقابل يقول البابا ”لكنني كلما حاولت أن أتصرف على طبيعتي لا أعجب الناس كثيرا“.

نتفليكس تحاول، من خلال خلق هذه الصورة، الموازنة بين شخصيتين مختلفتين إلى حد التناقض وإعطاء الأفضلية للكاردينال كقائد كاثوليكي، أراد أن يتخلى عن السلطة الدينية والدنيوية التي كان يتمتع بها في الأرجنتين ورفض بشدة تولي منصب الحبر الأعظم

ورغم أن الفيلم لم يعرض بشكل مفصل ما يحدث داخل الفاتيكان كمؤسسة فريدة تطبعها السرية، لكنه أراد التركيز على قمة الهرم فيها، كمكان يخوض فيه الكرادلة حروبًا خاصة، وتهدد الفضائح باستمرار بتقويض السلطة البابوية، ويأتي تقديس الماضي بشكل مؤلم ضد اعتبارات الحياة الحديثة ما يتطلب تغييرات بنيوية فشل فيها على ما يبدو البابا السابق بنديكت الـ16.

رؤية الأرجنتيني لإصلاح الكنيسة برزت كاستراتيجية متناغمة مع كان يقوم به في بلاده، بتواصله مع الناس بشكل مباشر، وهنا يؤكد على حاجة الكنيسة والكهنة إلى جسور لا جدران، ليجيبه البابا بأن ”الإدارة البابوية مثل الآلة إن وضعت يدك فيها تقطعها إربا إربا“.

آراؤه في العديد من الملفات مثيرة؛ فهو، على سبيل المثال، يفضل حل موضوع مشكل المصرف البابوي ولا يريد تكرار مسألة المصارف في بلده الأرجنتين التي تتحين الفرص لإزالة أي رقابة عليها، إنها مثل النمور التي تريد الخروج من الأقفاص لتلتهم كل شيء.

وارتباطا بتاريخه الشخصي مع النظم العسكرية في بلده وفي أميركا اللاتينية، يرى أن الاستبداد ليس فقط قمعا أو ظلما أو إرهابا، فهناك استبداد التدابير الاقتصادية غير المنصفة التي تخلق عدم مساواة بشكل هائل، وهو يرفض الاقتصاد الإقصائي وعدم المساواة اللذين يؤلهان المال، فكل مجتمع مطلوب منه أن يكون أداة للتحرر والنهوض بالفقراء.

وبواقعيته وخبرته داخل المجمع الفاتيكاني وامتداداته الدولية، يؤكد البابا للكاردينال، أننا جميعنا نعاني من الكبرياء الروحاني و“يجب أن تفهم أنك لست الله لتغير كل شيء. فنحن نحيا بالله ولكننا لسنا منه، أنت مجرد بشر، كما يجب أن تؤمن بالرحمة التي تبشر بها. فأنت تقود ليس بالقوة ولا بالذهن. أنت تقود بالطريقة التي تعيش فيها أو التي عشتها“.

بيتزا وكرة قدم

الفاتيكان يمر في عالم علماني مفتون أحيانًا بمهرجان القديس بطرس، لكنه في الكثير من الأحيان معادٍ أو غير مبالٍ على نحو متزايد
الفاتيكان يمر في عالم علماني مفتون أحيانًا بمهرجان القديس بطرس، لكنه في الكثير من الأحيان معادٍ أو غير مبالٍ على نحو متزايد

يمر الفاتيكان في عالم علماني مفتون أحيانًا بمهرجان القديس بطرس، لكن في الكثير من الأحيان معادٍ أو غير مبالٍ على نحو متزايد بمهمة الكنيسة العازمة على تنسيق الجهود لمواجهة الأعداء والمنافسين والتطرق إلى اهتمامات ليبرالية مثل العزوبة وتمكين المرأة.

البابا فرنسيس كما قدمه الفيلم ليبرالي يلوم العولمة، لكنه يستمتع بمغرياتها، فقد عشق البيتزا الإيطالية، لكنه بقي متابعا جيدا لكرة القدم الأرجنتينية. هذه وضعية غاية في التعقيد بين الهوية الثقافية والآفاق المتعددة، بين الدين والتدين يقف الفيلم في مفترق طرق، يحاصر التغيير البابا المحافظ ويخاف الكاردينال من طغيان العولمة وبقي محافظا على جانب من إنسانيته ودفاعه عن المظلومين ليس فقط في مدينته بوينس آيريس وإنما في العالم أجمع.

البابا فرنسيس يقول إن العنف في كرة القدم جزء من اللعبة فهل آمن بأن العنف جوهر النظام الدكتاتوري في بلده؟ وبهذا المنطق يريد كاتب السيناريو أن ينفي صفة الدكتاتورية التي وصفه بها الكاتب ماركانتونيو كولونا، في مؤلفه “البابا الدكتاتور”، الذي هزّ روما والكنيسة الكاثوليكية برمتها، وذلك من خلال صورة لـ”بابا الشعب”، الذي يخفي وراء ابتسامة لطيفة مستبداً لا يرحم.

12