"ملكة" الشعر الروسي وأوجاع السنوات السود

الشاعرة الروسية أنّا أخماتوفا عاشت الرعب والجوع ومنعت أشعارها من قبل أجهزة الرقابة الشيوعية، ووصفت من قبل ستالين بـ“العاهرة المتفسخة”.
الثلاثاء 2019/12/17
شاعرة لم ينجح أحد في قمعها

في نهاية العام الحالي، صدر في باريس كتاب ضخم يحتوي على الحوارات التي أجرتها ليديا تشوكوفسكايا خلال الحقبة الستالينية (نسبة إلى ستالين) مع أنّا أخماتوفا (1889-1966) التي كان محبوها يلقبونها بـ”ملكة الشعر الروسي”، وبـ”روح السنوات الفضية”، أي السنوات التي سبقت الثورة البلشفية. وتشكل هذه الحوارات التي تحتوي على شهادات مؤثرة، وعلى مقاطع من قصائد كتبت في الصمت والعزلة، وثيقة هامة للغاية عن حياة شاعرة عاشت الرعب والجوع ومنعت أشعارها من قبل أجهزة الرقابة الشيوعية، ووصفت من قبل ستالين بـ”العاهرة المتفسخة”.

وقد ولدت أنّا أخماتوفا، واسمها الحقيقي أنّا أندريا فناجورينكو في الثالث من يونيو 1889 في منطقة البحر الأسود بالقرب من أوديسا. وكان والدها مهندسا في البحرية. أما والدتها فقد فرّت من زوج كان يكبرها بأزيد من ثلاثين عاما، لتتزوج من والدها عن حب. وعقب سنة واحدة من ولادتها، انتقلت عائلة أنّا أخماتوفا لتستقر قرب سانت بطرسبورغ، العاصمة الصيفية للقيصر. لذلك سوف تتذكر دائما طفولتها السعيدة في تلك المنطقة حيث تسرح الخيول في الحقول الخضراء. وعند بلوغها سن السادسة عشرة، انتقلت لتعيش في ضواحي سيباستيبول حيث “عقدت صداقة مع البحر” على حد تعبيرها.

وفي عام 1910، تزوجت من نيكولا غوميلاف الذي أعدم خلال الثورة البلشفية، وسافرت إلى باريس لتمكث فيها سنة كاملة تعرفت خلالها على الرسام موديلياني الذي رسمها بتصنيفة شعر ملكات النيل. كما تمكنت أيضا من أن تقرأ بالفرنسية التي كانت تتقنها أعمال كبار الشعراء الفرنسيين أمثال فرلين وبودلير ومالارميه وجيل لافورغ. وفي عام 1912، شرعت في نشر قصائدها في مختلف المجلات الأدبية. وخلال عام، زارت العديد من المدن الإيطالية المشهورة بمتاحفها الفنية وبآثارها التاريخية. وبعد عودتها إلى بلادها توثقت علاقتها بالبعض من كبار الشعراء الروس من أمثال ألكسندر بلوخ وأندريه بايلي. كما قرأت قصائدها لباسترناك، وماياكوفسكي، واسنين.

رغم الحصار والمراقبة الدائمة، كان الجميع يحفظون قصائد أنّا أخماتوفا عن ظهر قلب، ويرددونها في الأركان المعتمة

عند اندلاع الثورة البلشفية عام 1917، فرّ العديد من الشعراء والكتاب والمفكرين الروس إلى الخارج، إلاّ أن أنّا أخماتوفا فضّلت البقاء في بلادها لأن الهروب إلى المنفى “خيانة للغة” بحسب تعبيرها. وفي نفس الوقت انفصلت عن زوجها نيكولا غوميلاف لتتزوج من مستشرق متخصص في الحضارة البابلية. غير أنها سرعان ما تركته لتكتب قصيدة وفيها تقول “زوجي جلاد وسقفه سجن”.

بعد انهيار النظام القيصري، بدأت متاعب أنّا أخماتوفا لتعيش سنوات سود عصيبة. فقد هاجم الشيوعيون قصائدها “الفردانية” و”الأنثوية”. أما تروتسكي الذي كان يعيش نزاعا عنيفا مع رفيقه اللدود ستالين، فقد اعتبرها واحدة من تلك “القافلة النبيلة التي تحتضر”. ولم يمض وقت طويل على هذا الهجوم حتى شرعت دور النشر تسدّ أبوابها في وجه أنّا أخماتوفا.

كما أن عشاقها وأحباء شعرها راحوا ينفضون من حولها خوفا من العقاب. وخلال المؤتمر العام لاتحاد الكتاب الروس الذي انعقد في صيف عام 1934، قام بوخارين الذي كان آنذاك أحد رموز النظام البلشفي، بالتهجم علنا على أنّا أخماتوفا باعتبارها “بذرة بورجوازية فاسدة”. ومع بداية سنوات الإرهاب الستاليني، أودع ابنها الذي كان مستشرقا مرموقا، السجن. أما صديقها الحميم عوسيب ماندالشتام فقد توفي في سيبيريا بسبب الجوع والبرد.

خلال الحرب العالمية الثانية، سمح لأنّا أخماتوفا بنشر قصائدها في  المجلات الرسمية، وبقراءتها في الإذاعة وفي النوادي الثقافية. غير أن هذا لم يدمْ طويلا إذ سرعان ما ضربتها عصا الرقابة من جديد لترتد إلى وحدتها وصمتها. ولم تخرج من النفق المظلم إلاّ في أواخر حياتها حيث تمّ طبع أعمالها الشعرية، ومنحها اتحاد الكتاب الأوروبيين جائزة أدبية مرموقة. كما حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد بعد أن زارها الشاعر الأميركي الكبير روبرت فروست.

من خلال الحوارات التي أجرتها معها لوديا تشوكوفسكايا بين عام 1938 وعام 1966، نكتشف أن أنّا أخماتوفا كانت تصارع يوميا من أجل الحفاظ على الحياة، وعلى الأمل في “بلد الأكاذيب”، وفي زمن “لا يبتسم فيه سوى الأموات لأنهم سعداء بأن يكونوا في أمان وسلام”. وبسبب الرعب اليومي، فقد الروس القدرة على المقاومة. لذا كانوا يبدون وكأنهم كائنات مشلولة عاجزة عن الحركة، وعن الكلام. ومع ذلك لم تنقطع أنّا أخماتوفا عن الكتابة.

وكانت قصائدها توزع سرا في جميع أنحاء روسيا ليجدوا فيها ما يعبر عن مشاعرهم، وعن أحوالهم الحقيقية خلال السنوات المرة السوداء التي كان فيها المثقفون يعدمون، ويرسلون إلى محتشدات سيبيريا بسبب كلمة أو قصيد أو مقال. ورغم الحصار والمراقبة الدائمة، كان سواق التاكسي والمهندسون والعمال والمزارعون يحفظون قصائد أنّا أخماتوفا عن ظهر قلب، ويرددونها في الأركان المعتمة، بعيدا عن أعين وآذان الجواسيس والمخبرين. ورغم الأوجاع والمصائب، ظل الشعر بالنسبة لأنّا أخماتوفا هو “الوعي” في ظل الاستبداد، و”المجد الحقيقي”، وليس السلطة التي تهينها وتعذبها.

وخلال سنوات الحرب، تذكرت أنّا أخماتوفا باريس التي أحبتها، فكتبت قصيدة ترثي فيها حالها بعد أن احتلها النازيون، وفيها تقول “لكن الابن لن يتعرّف على أمه والحفيد يدير وجهه باكيا والرؤوس تنحني أكثر فأكثر والقمر يتمايل مثل رقّاص وهكذا يهيمن اليوم الصمت على باريس”. وفي عزلتها، كانت أنا أخماتوفا تهتم بالتاريخ الروسي والعالمي، وبالآداب الأجنبية. لذا قرأت ست مرات رائعة جويس “أوليسيس”، واهتمت بأعمال فوكنر، وليوباردي. كما أنها كانت تستقبل بحفاوة بالغة كل الشعراء والكتاب المناهضين للنظام الشيوعي.

15