مرجعية النجف تتبرأ من حمام الدم

المرجعية الشيعية في العراق تتنصل من مسؤولياتها السياسية وتؤكد أنها مجرد ناصحة والقرار السياسي للشعب.
الثلاثاء 2019/12/03
المتظاهرون يردون على السيستاني بنصيحته

تحاول المرجعية الشيعية جاهدة أن تنأى بنفسها عن الاحتجاجات التي يشهدها العراق من شهر أكتوبر، والتي أسقطت عنها قدسيتها وجعلتها على قائمة المنظومة المغضوب عليها، باعتبارها من توليفة الحكم في العراق والتي أحبطت آمال الكثيرين في التغيير والإصلاح.

أخذ العراقيون يترقبون خطبة المرجعية، من كربلاء، مرة على لسان عبدالمهدي الكربلائي، أمين العتبة الحُسينية، وأخرى على لسان أحمد الصافي، أمين العتبة العباسية، حتى صارت العتبتان، ومنذ سنوات طويلة، محل رصد الصحافة والإعلام عامة، والعراقية بل العربية بشكل خاص، حتى فُهمت تلك الخطبة بمثابة توجيهات “الولي الفقيه”.

كان آية الله علي السيستاني يستقبل السياسيين العراقيين، من الأحزاب الإسلامية، في السنوات الأولى بعد الغزو الأميركي. وهو الذي كان يعطي التوجيهات لهم، من نواه وأوامر. والسياسيون أنفسهم كانوا يتبجحون برضا السيد عليهم. نتذكر أن نوري المالكي لما أخذت مفاسده تحاصره، لاذ بالسيستاني، وقال إن السيد “يحترمني ويحبني”.

لكن، هل أن السيستاني هو الذي يعطي التوجيهات، في السياسة العراقية شخصيا، أم المكتب الذي يديره نجله محمد رضا السيستاني، وكل ما يُذاع في خُطب الجمع هو من ترتيب السيستاني الابن. هذا الأمر ليس جديدا، في ما يخص أولاد المراجع، فكل مرجع له ولد يحجبه عن الآخرين.

ليس بعيدا إذا أصرّت المرجعية على تدخّلها السياسي العلني، أن يهاجم المتظاهرون بيت المرجع نفسه، بعد حرق القنصلية الإيرانية لمرتين

وإذا كانت المرجعية مثلت دور الولي الفقيه، في العديد من المواقف الحاسمة، كتغيير رئيس وزراء وتنصيب آخر، فهو فعل الولد لا الأب المرجع، فهو الذي شكل الائتلاف الشيعي، والذي يُسمى بالائتلاف الوطني، والذي مثلته قائمة رقم 169 وقائمة رقم 555، في دورتين انتخابيتين، وكانت صورة السيستاني تُزين القائمتين. كما حرض وكلاء المرجعية في بغداد وبقية المحافظات العراقية على انتخابات الائتلاف المذكور، لأنه يمثل الطائفة الشيعية. كذلك تحريض المرجعية على التصويت للدستور، وكان خيبة من خيبات الدولة العراقية.

كان هتاف أتباع الأحزاب الدينية يدوي داخل المناطق الشيعية، وهو “تاج تاج على الراس سيد علي السيستاني”. بل وكل سياسي وائتلاف لا بد له عند الحديث للإعلام بتمجيد دور المرجعية الدينية، وكأن الحل لا يأتي إلا منها، وأن كلمتها لا تكون اثنتين، ومَن ترفضه المرجعية لا يقبله أحد. حتى في الدوائر فقد زوّر البعض رسائل باسم المرجعية لتعيين موظفين وقبولهم في دورات عسكرية.

وقد حدث أن وضّحت المرجعية في بيانات لها ذلك التزوير. بمعنى أن المرجعية ذات صوت مرتفع وهيمنة، يمكن اعتبارها تمثل دور “ولاية الفقيه”، مع أنها في عدة خُطب وبيانات تنفي ذلك، وتؤكد على أنها تمثل ولاية الفقيه الحُسبية أي الشرعية، وليس السياسية، لكن ما حصل كانت ولاية فقيه سياسية.

غير أن الأمر انقلب تماما، بعد المفاجأة التي جاءت بها التظاهرات الشبابية، في عموم محافظات الوسط والجنوب ناهيك عن قوتها في بغداد. فلم ترفع صورة لا للسيستاني ولا لغيره. فاجأت التظاهرات المرجعية وإيران والأحزاب الدينية قبل غيرها، لكونها انفجرت بين الشيعة ضد الأحزاب والشخصيات الشيعية والدولة الشيعة؛ إيران.

وليس ببعيد إذا أصرّت المرجعية على تدخّلها السياسي العلني، أن يهاجم المتظاهرون بيت المرجع نفسه، بعد حرق القنصلية الإيرانية  لمرتين في النجف ومرة في كربلاء، وهما عقر دار المرجعية الدينية، والتأثير الإيراني.

لهذا ظهرت المرجعية في خطبتها يوم الجمعة (29/11/2019) وقالت إنها لا تتدخل في الشأن السياسي، وهي ليست جهة قرار، في أي شكل من الأشكال. وأعلنت بصريح العبارة: أنها مجرد ناصحة والقرار السياسي للشعب العراقي. وهذا ما جعل البعض يتحدث عن “نظرية” للمرجعية الدينية وهي “ولاية الأمة على نفسها”. وهذا ما كان يقوله رجل الدين اللبناني، خصم حزب الله وولاية الفقيه، محمد مهدي شمس الدين. بمعنى أن المرجعية أخذت بالنأي عن النفس، بعدما رأت الشارع الشيعي العراقي يموج في معارضة تدخل رجال الدين في السياسة.

لا تريد المرجعية أن تكون مسؤولة عندما وصل الأمر إلى سقوط نحو خمسمئة قتيل من الشباب الشيعي، وبرصاص ميليشيات وقوات شيعية، مع أن عادل عبدالمهدي اعتبر المرجعية ولية أمره، وأنه لم يستقل بسبب التظاهرات والضغط الشعبي الواعي وغير العادي، ولا بسبب الدماء التي سُفكت، وهو يتولى رئاسة الوزراء وقيادة القوات المسلحة العامة، بل إنه قدم استقالته تلبية لرأي المرجعية.

وهذا ما استهل به استقالته “قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ”. والأب هنا السيستاني وليس عبدالمهدي المنتفكي. كأن عادل عبدالمهدي يطلب حماية المرجعية، من تبعات ما حصل في وزارته من جرائم قتل، فهو بالتالي المسؤول الأول عنها.

كذلك أراد أن يقوّي دور المرجعية بأنها التي تأمر وتنهى، على طريقة وأسلوب ولاية الفقيه الإيرانية، وأنه ابن الطائفة التي تتزعمها المرجعية. وخلاصة القول، إن القوى الدينية تحاول أن تُعمق دور المرجعية، وأنها لا تحكم العراق إلا بظلها، مع أن المرجعية قررت النأي بالنفس، عندما قدمت نفسها مجرد ناصحة لا أكثر، ونتمنى أنها كانت صادقة في ما ذهبت إليه، لا مجرد الهروب من الموقف المحرج.

7