تتالي الصدمات يضاعف التشكيك في عملية برخان الفرنسية

مناطق كاملة في مالي لا تزال خارج سيطرة القوات المالية والفرنسية وهو ما يضع باريس أمام حقيقة أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار في المنطقة دون عودة الأمن.
الخميس 2019/11/28
الجنود الفرنسيين وحدهم لا يستطيعون استعادة الاستقرار في مالي

باريس- أصيبت فرنسا بصدمة كبرى جرّاء مقتل 13 جنديًا فرنسيا، الاثنين، في حادث طائرة هليكوبتر في مالي. وأسالت الفاجعة حبرا يزيد من حدة التشكيك في عملية “برخان” العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي. وأشعلت الحادثة أسئلة حول الأهداف التي تسعى فرنسا إلى تحقيقها، وحول طبيعة الاستراتيجية المتبعة للوصول إليها.

وتضم حملة برخان لمكافحة الجهاديين نحو 4500 عسكري في خمس دول في منطقة الساحل (مالي، النيجر، بوركينا فاسو، تشاد وموريتانيا). وتركّز جهودها في منطقة ليبتاكو غورما في شمال-شرق مالي.

ولا تزال مناطق كاملة في مالي خارج سيطرة القوات المالية والفرنسية وتلك التابعة إلى الأمم المتحدة، التي يجري استهدافها دورياً بهجمات دموية رغم التوصل إلى اتفاق سلام مع المتمردين السابقين وغالبيتهم من الطوارق في الشمال، يفترض أن يؤدي إلى عزل الجهاديين بشكل كامل.

وتقول مصادر مراقبة للشؤون الأفريقية إنه إذا كان هدف “الاستقرار السياسي والاقتصادي” في تلك المنطقة، وفق ما قدمه رئيس الوزراء الفرنسي، إدوارد فيليب، غير قابل للنقاش، فإنه بات من الواضح أن وجود 4500 جندي لم يسمح بالوصول إلى هذا الهدف. وتضيف أنه صحيح أن الجماعات الجهادية لم تستول على السلطة في باماكو، لكنها انتشرت في المناطق الفرعية المجاورة، من النيجر إلى بوركينا فاسو، إلى حدود الكوت ديفوار، في قلب أفريقيا الناطقة بالفرنسية، وأن آلافا من المدنيين كما جنود أفارقة سقطوا ضحايا هجمات الإرهاب والعمليات المضادة.

مقتل 13 جنديا فرنسيا في حادث طائرة هيلكوبتر في مالي يثير أسئلة حول مدى فاعلية عملية برخان في الساحل الأفريقي

منذ ما يقرب من سبع سنوات وتحديدا في يناير 2013، قام فرانسوا هولاند بمبادرة إرسال جنود فرنسيين لمنع الجماعات الإسلامية العاملة في شمال مالي من السيطرة على البلاد. أحدث الأمر لاحقا هتافات غير متوقعة من حشود الناس مرحبة في باماكو بجيش القوة الاستعمارية السابقة والتصفيق لها، ناهيك عن ترحيب الزعماء الأفارقة.

وتلفت مصادر أفريقية مراقبة أن هؤلاء الزعماء لم يستطيعوا قبل ذلك طرد الجهاديين المتحدرين من جماعات الجهاد في الجزائر، والذين باتوا محاصرين في صحراء شمال مالي. حظي هذا التدخل الخارجي بدعم سياسي واسع. ثم بدا الانتصار كاملاً، سواء بالنسبة للجيش الفرنسي أو للسلطة التنفيذية في باريس.

وتضيف المصادر نفسها أنه في مواجهة الحكومات الأفريقية التي اهتزت بفضائح الفساد، وغير القادرة على تلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان، والعاجزة عن توفير الأمن في التصدي لميليشيات وجيوش مرتجلة، استطاع خطاب الجهاديين الطهراني أن يجد صدى حقيقي بين السكان المهمشين.

ويخلص المراقبون إلى أن هذا الوضع أتاح للإسلاميين المسلحين أن يتجذّروا في منطقة الساحل الأفريقي، مستغلين الخصومات القديمة، بما في ذلك بين المزارعين والقساوسة، لتحويلها إلى كراهية وفرصة للانتقام.

وكان رئيس هيئة أركان الجيوش الفرنسية الجنرال فرنسوا لوكوينتر قد اعتبر أن دول الساحل في أفريقيا كانت ستنهار وكان الإرهاب سيصبح خارج السيطرة لولا عملية برخان التي تقودها بلاده في المنطقة.

وأعلن أنه “لو لم نكن هنا ولو رحلنا غداً ولو لم نتحرك مع الأوروبيين الذين يديرون معنا هذه الأزمة الخطيرة جداً، لانهارت هذه الدول على نفسها ولنما الإرهاب من دون قيود، وكان يمكن وصوله إلى فرنسا وأوروبا وإظهار نفسه هناك، وكنّا سنعرف ظواهر هجرة هائلة”.

وترى مصادر دبلوماسية فرنسية أن التدهور الأمني، على الرغم من وجود الآلاف من الجنود الأجانب، وعدم إيفاء المجتمع الدولي بتمويلات كان قد وعد بها، وعجز الدول الأفريقية على بسط سلطتها على كامل أراضيها، وفّر مساحة لتنامي رأي عام محلي ضد الجهد الفرنسي في المنطقة.

وامتدت الهجمات في السنوات الأخيرة إلى وسط مالي وجنوبها وأيضاً إلى بوركينا فاسو والنيجر المحاذيتين. وقال الجنرال لوكوينتر إنّ “مساحة المنطقة التي نبذل جهوداً فيها، ليبتاكو غورما، توازي مساحة ربع فرنسا”.

وأوضح أنّه “ليس بإمكان فرنسا، حل مشكلة تمتد فوق مساحة شاسعة، وترتبط بأناس ينتشرون بين السكان، ويرهبونهم”. وأضاف “علاوة على ذلك، المشكلة أوسع من كونها مشكلة عسكرية. إنّها مشكلة بنيوية، تشتمل على قضايا التنمية والحوكمة، وتفاقمت نتيجة التوترات بين الإثنيات ونتيجة الجفاف الذي يعصف بالساحل”.

التدهور الأمني وفّر مساحة لتنامي رأي عام محلي ضد الجهد الفرنسي في مالي
التدهور الأمني وفّر مساحة لتنامي رأي عام محلي ضد الجهد الفرنسي في مالي

وتعتبر أوساط سياسية في باريس أن الانتصار الوحيد المحتمل هو إعادة بناء الدول التي تواجه هذه القلاقل، مثل مالي وبوركينا فاسو. وتضيف أن هذه الدول تعاني من انهيار مواردها المالية، ومن ارتباك في إرساء الديمقراطية، مقابل رواج خصومات الطوائف، ناهيك عن انتشار الأسلحة الواردة من ليبيا منذ انهيار نظام معمر القذافي.

وتضيف الأوساط أن ظاهرة الاحتباس الحراري قلّصت مساحات الأراضي الصالحة للزراعة، وبالتالي زاد هذا الأمر من حدة التوترات.

وتقف فرنسا أمام حقيقة أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار دون عودة الأمن. لكن الجنود الفرنسيين وحدهم لا يستطيعون استعادته. ليس فقط لأنهم يمثلون المستعمر السابق في نظر الناس، بل لأنهم لا يستطيعون التعويض إلى ما لا نهاية عن الغياب الفعلي للدول الأفريقية.

وتقول مصادر برلمانية فرنسية معنية بالشؤون الأفريقية إنه يجب على الاتحاد الأوروبي، الذي يتعرّض أمنه للخطر، أن يكون أكثر انخراطًا مع فرنسا في هذه المهمة، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضًا لممارسة ضغوط أوروبية جماعية ضد الفساد والحكم السيء.

وتضيف المصادر أنه لا يمكن تحقيق الأمن في هذه المنطقة دون دول المنطقة أنفسها، وأنه يتعيّن على فرنسا والأوروبيين دعم جهود أولئك السياسيين المنخرطين بإخلاص وفاعلية للتصدّي لآفات المنطقة والاهتمام بشؤون سكانها.

وترى مراجع سياسية في باريس أن مقتل الجنود الفرنسيين الـ13، يزوّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بفرصة دراماتيكية لإعادة فتح النقاش حول سياسة باريس في منطقة الساحل الأفريقي، وأن يعيد تفسير أهداف المهمة الفرنسية هناك للفرنسيين ولسكان منطقة الساحل الأفريقي.

وتدعو هذه المراجع إلى توضيح الخطط الفرنسية لجميع المنخرطين في الجهد الفرنسي، من موظفين وعسكريين ودبلوماسيين واقتصاديين، وأن يوضح أيضا المخاطر المترتبة بعد 7 سنوات من التدخل الفرنسي هناك. ويخلُص هؤلاء أن الأمر بات يحتاج إلى وعي جديد يجنّب وقوع فرنسا في فخّ حرب لا تنتهي.

6