دوافع ابتعاد أنقرة عن المعايير العالمية للقانون

السياسيون يرون أن اعتماد القانون العالمي يمنع زجّ المصنفين أعداء في السجون، والأسوأ من ذلك أنه يمكن تطبيقه ضدهم حين يرحلون عن السلطة ويأتي غيرهم.
الاثنين 2019/11/25
قوانين تخدم الأنظمة وفاقدة للشرعية

أصدرت المحكمة العليا في تركيا قرارا، تقول التقارير الصحافية ‏في الآونة الأخيرة ‏إنه يحمل في طياته مؤشرات تدل على عودة الاحتكام إلى العقل والمنطق السليم.

‏ونص القرار على عدم ثبوت جريمة الانتماء إلى تنظيم إجرامي لمجرد التعاطف معه ‏وقراءة منشوراته واحترام زعيمه، إلا إذا ثبتت على المتهم أدلة تؤكد سعيه للانقلاب على الحكومة. وأكد أن الانضمام إلى التنظيم بغرض ارتكاب جريمة شرط ضروري لثبوت الجريمة.

لا يتمالك الإنسان نفسه من إبداء حيرته ودهشته قائلا: يا له من قرار مذهل! أين كانت تلك المحكمة حتى اليوم يا ترى؟!

لو شهدت تركيا غدا محاولة انقلابية جديدة، ولو ثبت أن مجموعة من المتعاطفين مع حزب الشعب الجمهوري يقفون وراء هذه المحاولة أو بينهم أعضاء من هذا الحزب، فما الذي سيحدث يا ترى؟! هل سيتعرض كل أعضاء الحزب للفصل من أعمالهم ووظائفهم ومصادرة كل ممتلكاتهم، واعتبارهم مجرمين، والزج بهم في السجون؟

الواقع أن قرار المحكمة العليا المذكور صحيح وطبيعي تماما. غير أن الإنسان لا يحتاج أن يكون خبيرا في القانون لكي يتوصل إلى مثل هذه النتيجة، بل يكفي أن يكون ذا عقل سليم فقط!

لن أتحدث عن “مبدأ شخصية الجريمة” لأنه تم تجاوز هذا المبدأ القانوني الأساسي في تركيا منذ زمن طويل. وقد أعلنت الحكومة اليوم حربا جماعية على كل المنظمات والمجموعات. وأصبح التأكيد على أنه “لا يمكن إدانة أي شخص بناء على قناعة شخصية” أمرا عبثيّا.

بحسب عقلية الحكومة الحالية، إذا ثبت انتماء شخص إلى تنظيم إجرامي ثبتت جريمته تلقائيّا، ومن ثم يعتبر تبادل التحية أو التقاط صورة جماعية أو زيارة عادية لمن له أدنى صلة بعضو في تنظيم إجرامي دليلاً كافيا على ثبوت تهمة عضوية التنظيم.

لهذه الأسباب فإن هذا القرار الصادر عن المحكمة العليا يبدو مخالفا للمنطق القانوني السائد في تركيا اليوم، حيث يتعامل مع القناعة الشخصية أو المعلومة العامة وكأنها دليل يغني عن الإثبات.

هناك أمر مثير للغرابة في قرار المحكمة العليا. فقبل كل شيء ينبغي التساؤل عن سبب إقدام المحكمة في 9 يوليو 2019، على هذه الخطوة المثيرة وفي هذا التوقيت بالذات؟ أين كانت حتى اليوم؟ ولماذا لم يتم تعميم هذا القرار لكي يتم تطبيقه على الحالات المماثلة؟ وأين الآن هؤلاء القضاة الذين أصدروا هذا الحكم؟ ومن هؤلاء المتهمون أو المحكومون، الذين يبرئ هذا القرارُ ساحتهم؟ وأين هؤلاء يا ترى؟ هل خرجوا من السجن أم لا يزالون هناك؟

لكن الأسئلة المهمة ليست تلك التي ذكرتها أعلاه، بل هي: لماذا أصبح القانون في تركيا “وطنيّا ومحليّا” إلى هذه الدرجة؟ ولماذا أصبح القانون الخاص ببلادنا يختلف تماما عن الممارسات والتطبيقات العالمية؟ لماذا اختار هذا العدد الكبير من المدعين العامين والقضاة هذا المسار “الوطني المحلي” البعيد عن معايير القانون والحقوق العالمية؟ لماذا لا يفكرون مثل أعضاء المحكمة العليا الذين أصدروا هذا القرار؟

إن المرء، سواء كان قاضيا أو مواطنا عاديا، يحتاج إلى بعض المبررات والذرائع والمعتقدات لكي يصبح “وطنيا ومحليا” بهذا المعنى. فالشخص الذي يخرق القانون بصورة متعمدة يحتاج إلى إضفاء الشرعية على تصوراته وممارساته. ويجب عليه بعد ذلك أن يلجأ إلى قصة مناسبة لكي يتمكن من مواجهة نفسه في المرآة دون تأنيب من عقله أو ضميره. لذا لا أحد يقول: “نظرا لأنني جبان، غير شريف، غير عادل وقاس، فإنني أطبّق هذا النوع من القانون أو لا أعترض على هذا القانون الغريب”. لن يفكر أحد هكذا.

فماذا يقول وكيف يفكر إذن؟ إنه يفكر بطريقة من شأنها أن تخفِّف عذابات ضميره: “العالم كله ضدنا، ويريد أن يقسّمنا ويدمّرنا. أعداؤنا كثر موجودون في الخارج، لكنْ لهم أذرع وامتدادات في الداخل أيضا. نحن نخوض حربا، حرب الاستقلال. هذه معركة البقاء أو الزوال. فلا يمكن أن نفتح المجال أمام أولئك الذين يتذرّعون ويتشبّثون بالقانون والحقوق. إنهم في الحقيقة يستخدمون المبادئ الأساسية للقانون، الذي نحترمه، من أجل تدميرنا والقضاء علينا. لذا لا بد من استخدام أساليب غير عادية أثناء الحرب! إذا كان هذا هو الحال، وإذا كانت هناك حرب استقلال، فينبغي أن يكون القانون وطنيا ومحليا كذلك! هذا أمر ضروري في ظل هذه الظروف، حيث إن الأمة تتحد حول زعيمها، وتدعمه ضد قوى الشر. وأولئك الذين يعارضونه يُعتبرون خائنين. ومن ثم فإن القانون الذي يتحدث عنه العالم الغربي (وهو أحد أعدائنا) هو خداع وفخ وكذبة خبيثة!”.

حسنًا، لماذا يفكر المرء بهذه الطريقة؟ ولماذا يصف الآخرون هذا التفكير بـ”بارانويا” (جنون الارتياب) و”نظرية المؤامرة”؟ إجابتي على هذا السؤال هي كما يلي:

لقد تلقى الكثيرون مادة التاريخ وفقا لنظريات المؤامرة، التي تؤدي عادة إلى جنون الارتياب. وقد تَجسَّد هذا الارتياب عند الأتراك في العبارة الوجيزة: “التركي ليس له صديق آخر غير التركي!”، كما أن الكتب المدرسية تؤكد باستمرار على “التهديد الخارجي” ويسيطر عليها خطاب: “جيراننا والعالم كله ضدنا”. ذلك “العالم السيء” هو أعداؤنا التاريخيون بالنسبة إلى البعض، وجماعات الضغط اليهودية بالنسبة إلى البعض الآخر، والإمبرياليون بالنسبة إلى الآخرين.

وثمة مجموعة أخرى، خاصة السياسيين ومؤيديهم، ترى أن “القانونَ غير المحلي والوطني” يمثل مشكلة بل تهديدا لها. ذلك لأن القانون “العالمي” يمكن استخدامه ضدهم. وهذا يمكن أن يتحقق عبر طريقين؛ الأول: إذا تم اعتماد والتزام القانون “الغربي” فإنه يمنع الزجّ بالمصنفين أعداء في السجون ولا يمكن القضاء عليهم. غير أن الأسوأ من ذلك هو أن هذا القانون من الممكن أن يطبّق عليهم أيضا عندما يرحلون من السلطة ويأتي غيرهم.

ومن أجل الحيلولة دون هذا المصير فإنه من الضروري ترسيخ أركان قانون محلي وطني لا يسمح بحدوث تطورات سياسية تؤدي إلى هذه النتيجة الحتمية. وهذا يتطلّب بذل جهد منتظم ومستمر في هذا الاتجاه.

أما أولئك الذين هم أبعد ما يكونون عن نظريات المؤامرة وتصورات التهديد، والذين لديهم ثقة ذاتية بما فيه الكفاية، والذين يتعاملون مع المنظومة التعليمية والخطابات المسيطرة في البلاد بنظرة ناقدة، فإنهم يفكرون بشكل مختلف عن هؤلاء بطبيعة الحال. لكنْ هناك ثمن لذلك. إذ يجب عليهم أن يستعدوا لمواجهة العديد من الاتهامات، من قبيل السذاجة والغفلة عن الحقائق، والإعجاب بالغرب وعدم الوطنية، والجهل والعمى، وبيع الوطن وخيانته وما إلى ذلك.

إن أولئك الذين يعارضون الأنظمة الاستبدادية والقادة المستبدين تعرضوا، للأسف الشديد، لإعدامات واغتيالات قانونية وجسدية ونفسية لم يستحقوها أبدا. والمحظوظون هم الذين اتخذوا تدابيرهم والتزموا الصمت قبل فوات الأوان! أما المحظوظون بقدر نصف الفئة الأولى فهم الذين استطاعوا تجاوز “الحدود الوطنية” متوجهين إلى أرض الله الواسعة. هذا هو الوضع السائد في تركيا منذ ظهور حركة “الشباب الأتراك”. ولا ينجح مِنْ هؤلاء في استرداد حقوقهم المسلوبة إلا المعمّرون.

9