سهرة مع عفيفي مطر

الاثنين 2014/04/07

في خريف عام 1988، كنت في القاهرة صحبة فريق من التلفزيون الألماني لإنجاز فيلم وثائقي عن نجيب محفوظ، وخلال الأسابيع الثلاثة التي أمضيتها هناك التقيت بالعديد من أدباء مصر وشعرائها. وكان الشاعر محمد عفيفي مطر الذي تعرّفت عليه في بغداد واحدا من هؤلاء. وأذكر أنني كنت شديد الحرص منذ البداية على الالتقاء بصاحب: “الجوع والقصر”.

لذا سألت عنه حال وصولي إلى القاهرة، فبلّغت أنه يعيش في قريته “رملة الأنجب” بمحافظة المنوفية، وأنه يأتي إلى العاصمة مرتين في الشهر ليتزوّد بالكتب والمجلاّت، ويلتقي بأحبائه وأصدقائه، ثم يعود إلى مزرعته الصغيرة حيث يعيش عيشة الفلاحين البسطاء، يخدم الأرض، ويغرس الأشجار، ويربّي الحمام، ويعدّ العسل، ويرعى البقر، ويقرأ ويكتب بعيدا عن صخب القاهرة، وعن معارك مثقفيها التي لا بداية لها ولا نهاية. وقد ساعدني أحد الأصدقاء على الاتصال به فجاءني إلى مقهى “ريش” بشعره الرمادي الأشعث، وبوجهه الأسمر الذي لوّحته الشمس.

وقبل أن ألتقي بحمد عفيفي مطر في العاصمة العراقية التي أمضى فيها سنوات طويلة فارا من نظام السادات، كنت أتصوّر أنه “شاعر عبوس″ مثلما وصفه ذات مرة لويس عوض الذي كتب عنه أروع الدراسات وأعمقها. فالقصائد التي كنت قد قرأتها له في بداية اكتشافي له، ولعالمه الشعري، كانت شديدة الغموض، والتعقيد، وعليها تخيّم وحشة قاتمة يندر وجودها عند أيّ شاعر من أبناء جيله.

لذلك لم يكن باستطاعتي أن أفكّ رموزها إلاّ بصعوبة شديدة. وقد ساعدني د. لويس عوض على فهم عالمه الشعري الذي يتغذّى من التراث الصوفي، ومن الفلسفة الإغريقيّة. وفي حين اختار الشعراء المعاصرون له سواء من مصر، أو من البلدان العربية الأخرى التعبير بشكل مباشر إلى حدّ ما عن الفواجع والكوابيس العربية، كان هو يلجأ إلى الأقنعة والرموز. وهذا ما فعله في العديد من قصائده.

وصحيح أن محمد عفيفي مطر “عبوس″ في أشعاره التي تعكس واقعا عربيا مريرا، ومحنا قاساها الشاعر، غير أنه كان لطيف المعشر، حاضر النكتة، طيّب القلب، يضحك مثل طفل بريء، ولا يعبأ بهموم الحياة رغم أنه ذاق أمرّها.

وهذا ما أثبته لي في تلك السهرة الرائقة في مطعم على شاطئ النيل. وعلى مدى ساعات طويلة، راح يحدثني عن الشعراء الذين حاربوه، ونغّصوا عيشه، كما حدثني عن الشعر في معانيه الإنسانيّة العميقة. وفي نهاية السهرة، أوقف تاكسي. أعطى السائق جنيها، وقال له بلطف: “من فضلك.. خذ هذا الضيف العزيز إلى فندق هيلتون النيل!”.

15