رواية عن بطل رمادي يكاد يكون حجرًا بركانيًا منطفئا

"العين القديمة" لمحمد الأشعري تترجم رغبة تخليد مدينة وجيل واستعادة الذاكرة للتصالح مع ما أفل وانقضى، برغبة تطهرية.
الأربعاء 2019/11/20
فردانيات غارقة في السواد (لوحة للفنان إسماعيل الرفاعي)

لا تكون العين متعلقة بالمنظور إلا باحتمالات قليلة في الرواية، إنها تتشوّف إلى المخفي، المستقطر من مصفاة الذاكرة، أو المحدوس بالبصيرة، شخصيات ووقائع وأمكنة وتفاصيل وقت تلتهمها مراجعات ما بعد الرؤية، وتحوّلها إلى احتمالات، يمكن دوما أن تستوعب بوصفها ماضيا.

لا تحتمل الرواية العين إلا كذريعة لبدايات لا تصدق نهاياتها. وربما من أكثر المجازات تعلقا بالحقيقة تلك التي تنعت الرواية بأنها عين انتهت ومضت إلى مستقرها.

في رواية "العين القديمة" لمحمد الأشعري، ثمة شخوص وأمكنة، ونكهات، وأساليب كلام، وأوهام، وأنماط سلوك، انتهت، بمنطق الغياب الذي لم يعد بإمكانه التجلي إلا بوصفه ذكرى، تلتبس على البصر، لهذا كان منطلق الرواية ومآلها مرتكزا على المخاتلة في التعيين والتبيين، منذ الجملة الأولى، “أيقظته الرغبة في القتل، كان مستلقيا على ظهره في ظلام الغرفة، ولكن الشخص الذي أيقظته رغبة القتل كان واقفا”.

استيقظ “مسعود”، البطل، على حقيقة انشطاره، التي لا تعني شيئا إلا ما تعمى عنه عيون وبصائر الآخرين، “ذات هي عينها كآخر” (بتعبير ريكور)، تتشكل على امتداد المقاطع الأولى من الرواية، بما هي شخصية تستبطن وعيا، يميز بين حقيقتها وإدراكها لما يجري لها… تنتابها على امتداد المبنى الروائي رغبة مرزئة في القتل، لمن لا يتجلى إلا بوصفه شخصا ثاويا في الذات العميقة، ثم محاورات تتنامى بين أصوات توهم بالثنائية، بين عين وذات، وبين ذات وآخر، بينما لا يحتمل المنظور المضمر إلا حوارية حلمية يعيد فيها التخييل الروائي بسط أعماق شخصية تستعصي على الرؤية.

شخص متعدد

رواية لجيل الأحلام المكسورة
رواية لجيل الأحلام المكسورة

لنقل إن الرواية هي فن إنتاج نظائر لما لا ينظر إليه إلا بوصفه “واحدا”، يعي البطل مسعود منذ البداية أنه يسلك مسارا موحشا ترتد فيه الصور والمفردات والأفكار والمواقف إلى قاعدة مفردة، هو “وحيد”، بتسمية أخرى له، نعته بها السارد، وهو “كاغيد”، يخشى البلل بمياه الأحوال والصفات، لهذا لن يكون توحده الممتد إلا ذريعة للعين الروائية التواقة إلى النفاذ لعمق مستغنى بثنائيته عن الآخرين.

في مقطع عابر من الرواية يتحدث السارد عن فندق لنكولن في الدار البيضاء، العقار الذي يختصر مآل مدينة كولونيالية منذورة للزوال، كان الفضاء مأوى لمتشرد وحيد، (مثل مسعود تماما)، وله أيضا نديده، الذي لن يكون إلا ذاته عينها، في لحظة ما يقول السارد ما يلي: "لقد كان مسعود حتى الآن شخصا آخر، وها هو شخص غريب يقتحم حياته كما كان المتشرد يقتحم أبهاء فندق لنكولن، ولكن الفرق، يقول مسعود لنفسه محتدّا، إنني لست ‘خرابة‘، لست بناية سرقت أحشاؤها وحضرت على مهل للانهيار… هو الاحتلال الهمجي لشخص مليء بالحياة والرغبات، من طرف شخص رمادي، يكاد يكون حجرا بركانيا منطفئا منذ الآلاف من السنين… وعليّ فقط قتله، لا مكان لشخصين بهذا التناقض كله في حياة واحدة”.

لكن يبدو أن العكس هو ما وقع، حيث يثبت التخييل السردي أن ثمة احتلالا لذات من قبل طيف، ثم ضمير، فصوت، فذات ضمنية، فآخر ينطق بما يمليه سياق أحداث تقتضي مخاطبا. لنقل إن جلسة شراب عابر يمكن أن توهمنا أن الحديث بصوت مرتفع أمر عادي وأن التوحد طقس شرابي، يفضي إلى خلق الآخرين، لكن سرعان ما ينفلت هذا النديم الذي يقول “أعرف أنبذة أفضل منه لا ترقى إلى مستواه” لنعتقد في النهاية، أن الآخر فعلا شخصية روائية، اختار السارد ألا يسميها، درءا للعبة ترميز مشوّش، وسرعان ما يتبين في هذه البدايات، الممتدة ببطء، أن الأمر يتخطى التخفيف من حدة التنويع الشخصي، المقتضى روائيا، إلى وضع القارئ أمام تكوين خطابي ممتد بثنائيته، هو جوهر ما تستبطنه العين القديمة من ترددات ينبغي أن تكون لها أسماء، ومجازات، ومسارات.

هكذا تولد من الآخر نظائر حياتية لمسعود، تعبر عتبات وجوده بالدار البيضاء وباريس وروما، ثم العشرات من العتبات المتراسلة، الآخذة معها حيواتها، من ثورة الطلاب بفرنسا الستينات، إلى ما بعد مغرب سنوات الرصاص، ومن الدار البيضاء المتاحة الباذلة لرغبة العيش، إلى مدينة الاغتناء عبر الجريمة، مدينة الرعب العابر والممتد، تلازُم يوحي بالتوحد، والتناقض في آن، معا، ففي النهاية توهم المقاطع السردية بأن ذلك الشخص موجود وغير موجود، له شق مادي، “يعرفه الناس”، وشق افتراضي، “لا يعرفه أحد سواه”، وهو “نسخته المضادة، إنه هو نفسه معمول بشكل مختلف”.

تخليد مدينة

عمل استثنائي في مسار الروائي محمد الأشعري
عمل استثنائي في مسار الروائي محمد الأشعري

بصيغة المراوحة بين الصوتين المتنائيين والمتقاطعين تتشكل عوالم الرواية، المتصلة بمدينة الدار البيضاء، وبالمغرب المعاصر، وبانتكاسات السياسة، وخيبات الاستقلال، وعبثية التسلط، وانعطاب الأحلام، وارتداد الأصوات الجماعية والضمائر العامة إلى فردانيات غارقة في سخريتها السوداء، وفي دوامة عيشها ومراراتها، ولذائذها المقدِّسة للتكرار. وعبر اتصالهما تنمو تفاصيل سردية العائلة الصغيرة التي تحكم بنية الرواية، ففي صلة مسعود بأبنائه (وتحديدا منى)، وصلة الآخر بإخوته وخصوصا “البارون” (محامي الصفقات المشبوهة، من الانتخابات إلى تجارة المخدرات وشبكات الدعارة، والمضاربات العقارية) تنتسج وقائع التخييل الروائي، مازجا بين المجاز العائلي والعقدة البوليسية، رافدا بنية السرد بوقائع حقيقية، عن شخصيات وجرائم وفضائح ملأت الدنيا وشغلت الصحافة والناس، وانطوت على كنه درامي مغر بإعادة تخييل ما جرى.

وفي مقاطع مفصلية من متن الرواية يشتبك مسعود وصديقه “الآخر” مع ابنته منى، المقيمة بسان فرانسيسكو، أثناء زياراتها المتكررة للدار البيضاء، يخوضون معا في حكاية وقائع ولادتها وما جرى من خطأ، كاد يستبدل بها طفل آخر، لحظة وضعها في غرفة المواليد الجدد، طفل يعود إلى إحدى ضحايا أحداث 1981 بالدار البيضاء، وتدريجيا ينبت الشك في ذهن اليافعة، التي باتت تشبه أمها هيلين. وتشرع الرواية في تقليب مصائر أطفال قادتهم الصدفة إلى الولادة في المصحة ذاتها في اليوم عينه، وكأنما العين القديمة تأبى إلا أن تعيد فحص ذاكرتها، وبتركيب حيوات من تستدعيهم منى لحضيرة الرواية نتعرف على نماذج بشرية وأصوات ومنظومات سلوك وخرائط مضمرة للمدينة المتداعية، كما نتعرف عبر محطات جدالها مع أبويها؛ الحقيقي والموازي، مسعود والآخر، على تفاقمات مشهد منذور بالتحول والانهدام.

 وفي مقابل تلك الثنائية يتشكل المبنى الدرامي الكابوسي في الرواية عبر رغبة دفينة في القتل؛ قاتل ينبت في الخيال والأحلام، ووقائع قتل تتكرر ما بين الحقيقة والخيال، وتفاصيل جرائم قتل حدثت، وأخرى كانت ستحدث… رغبة القتل المتواترة في جدل مع الندم والسعي لهروب ممتنع، وكأنما الرواية تنظر إلى وقائع حاضر صار على ما انتهى إليه بالرغم عن الفاعلين فيه، لهذا لم يعد يعنيهم تكراره وانحداره وخراب ماضيه الزاهي.

يختصر السارد رغبة القتل في المقطع التالي: “ارحل إذا بدا لك، فورا، وإلا عجزت عن ذلك إلى الأبد… عندما يقول الآخر شيئا بهذه الجذرية تتقد عيناه بالحكمة والأسى. إنه ينصح مسعود بشيء عميق طالما تمناه لنفسه، ولم يقدر عليه، كأنه يطلب منه أن يفعل ذلك من أجلهما، من أجل حدوث شيء يغير مجرى الحياة، ويبذر فيها احتمالات غير متوقعة… أحيانا كثيرة يتساءل الآخر بينه وبين نفسه لماذا يريد حياة أخرى، إنه يعرف جيدا أن ذلك مستحيل، لماذا لا يقبل بالحياة الوحيدة التي حصل عليها؟ لماذا يتألم؟ لكونه لم يحصل على حياة مختلفة، وهل كان يمكن أن يحدث ذلك؟”.

كتب محمد الأشعري رواية “العين القديمة”، الصادرة عن دار المتوسط بميلانو 2019، برغبة تخليد مدينة وجيل وذاكرة، قد تكون رواية الدار البيضاء، مثلما كانت “علبة الأسماء”(روايته السابقة) رواية الرباط، وقد تكون رواية جيل انقشاع الوهم بصدد مغرب الراهن، حيث لا جديد إلا الانتظار والهروب إلى الأمام. وقد تكون رواية استعادة الذاكرة للتصالح مع ما أفل وانقضى، برغبة تطهرية، عبر خيال العين القديمة، وامتلاك صور تلك الذكريات وتأبيدها، والإقرار بفعل الزمن والتاريخ، ومسار العمر. لا جرم إذن أن تحفل “العين القديمة” بالروح التهكمية وبالانحياز إلى سكينة ما بعد خيبة الأمل، وأن تستند إلى عبارات لا تقول إلا حقيقتها الحادة والمدوخة التي تجعل من نص عملا استثنائيا في مسار الروائي محمد الأشعري.

15