كوكا كولا ونستله وماكدونالد صانعة رؤساء في الدول النامية

كبرى شركات المطاعم الأميركية والعالمية تدعم البحوث الزراعية في عدد من الدول الأفريقية ما يجعلها جزءا من تشكيل وعي مجتمعي ينعكس بالضرورة بعد ذلك على الوعي السياسي.
الأربعاء 2019/09/11
التأثير من الوجبة الأولى

كيف يمكن أن تكون كوكاكولا صانعة رؤساء، وأيّ دور سياسي يمكن أن تلعبه شوكولاطة نستلة في دولة أفريقية نائية، وما علاقة بيبسي وماكدونالد بإسقاط حكومة في دولة من دول أميركا اللاتينية. قد تكون الإجابة في الوهلة الأولى أن لا علاقة، فتلك شركات تنتج مواد غذائية همّها الربح. لكن، بالتعمّق أكثر في عملية البحث نجد أنّ هاته الشركات تغوص في عمق صناعة الأنظمة وواحدة من قوى التأثير الخارجية في سياسات دول العالم النامي، وأن ربحها مرتبط أساسا بهذا التدخل والتأثير.

بدأت أشهر سلاسل مطاعم الهامبورغر الأميركية منذ 2013 تفتتح أفرعا لها في دول القارة الأفريقية ونشر ثقافة الوجبات السريعة. ورغم ضعف المقدرة الشرائية لمتساكني هذه الرقعة الجغرافية الواسعة التي تعاني من نقص التغذية أو سوئها، حرصت هذه الشركات على الاستمرار وضمان وجودها.

من خلال هذه الصورة يبدو وكأنّ هذه الشركات تخالف قاعدة اقتصادية معروفة تقول إنّ الاستثمار المجدي ينبني على دراسة السوق المراد غزوها وهامش الربح، الأمر الذي يثير التساؤل حول مدى جدية هذه الاستثمارات.

ويجيب إدواردو غوميز، المحلل في مجلة فورين بوليسي، عن هذا التساؤل في دراسة نشرتها المجلة، قائلا إن “هذه الشركات قررت بذل جهود لاستباق ردود الفعل التنظيمية والثقافية، التي أثّرت على مبيعاتها في أوروبا والولايات المتحدة من قبل، عبر العمل على تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي لصالحها”.

الذهاب إلى أفريقيا

بدأت بعض الشركات تتحسس الطريق بحذر غير متأكدة ما إذا كانت القارة السمراء على استعداد لتقبّل مثلا “الوجبة الكومبو” التي تقدّمها المطاعم الأميركية. على سبيل المثال، تمتلك شركة ماكدونالدز 177 مطعما في جنوب أفريقيا. وافتتحت شركة بيرغر كينغ العالمية أول سلسلة مطاعمها البالغ عددها ما لا يقلّ عن مئتين في جنوب أفريقيا. بينما شركة مطاعم سي.كي.أي تعتزم فتح سلاسل مطاعم هارديز في نيجيريا.

غير أنّ الشركات الأميركية تواجه مشاكل في العديد من الدول الأفريقية منها النقص الشديد في المخازن والمبرّدات اللازمة لتخزين الخضروات، كما أن هناك نقصا في الأبقار في العديد من الأماكن الأفريقية، مما يجعل أسعار اللحوم مرتفعة وهو ما لا يستطيع المستهلك في الدول الأفريقية تحمّله.

إدواردو غوميز: الوجبات السريعة تشكل وعيا سياسيا جديدا
إدواردو غوميز: الوجبات السريعة تشكل وعيا سياسيا جديدا

من هنا، انخرطت شركات الوجبات الخفيفة العالمية في دعم التنمية الفلاحية والزراعية في أفريقيا، أولا من أجل توفير المواد الأساسية لصناعتها، وثانيا للمساهمة في دعم الطبقة الوسطى عبر توفير مواطن شغل وتحقيق الاكتفاء الذاتي والزراعي لقارة يمكنها توفير قوت العالم إذا ما تمّ الاستثمار في أراضيها الشاسعة.

وتدعم شركات المطاعم الأميركية والعالمية البحوث الزراعية في عدد من الدول الأفريقية، كما تموّل كذلك مشاريع البنية التحتية وآليات الاستصلاح الزراعي وحتى المناهج التعليمية، ما يجعلها جزءا من تشكيل وعي مجتمعي ينعكس بالضرورة بعد ذلك على الوعي السياسي.

ولا يقتصر توجّه كبرى الماركات العالمية إلى أفريقيا على تغيير السلوك الاستهلاكي للأفارقة، بل على تغيير الوعي السياسي والمشاركة بطريقة غير مباشرة في “صناعة” توجّهات حكومات المستقبل في القارة السمراء.

بالإضافة إلى تغيير السلوك الغذائي الذي يؤثر بالضرورة على السلوك الاقتصادي والسياسي، تستهدف هذه الشركات أيضا مناهج التعليم عبر المساهمة في تمويلها، ودعم الأنظمة وعلى تأسيس تحالفات سياسية واجتماعية.

ويقول إدواردو غوميز “قدّمت هذه الشركات مبادرات لمكافحة الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية لمساعدة سياسيين معيّنين على تعميق قاعدة داعميهم السياسية. في بعض الحالات، تواصلت الشركات مع المجتمعات مباشرة”.

نمت الطبقة الوسطى في مختلف المجتمعات إلى درجة أنها يمكن لأول مرة أن تستوعب غالبية سكان العالم بحلول عام 2020. وفي حين أن معظم هذا النمو سيحدث في آسيا، فمن المرجّح أن تكون أفريقيا مفتاحا لجزء من هذا الاتجاه العالمي.

وتجذب العديد من العوامل شركات الوجبات السريعة الكبيرة إلى البلدان ذات الأسواق الناشئة التي تسجل زيادة في عدد المستهلكين المنتمين إلى الطبقة المتوسطة. وفي أفريقيا، ازداد حجم الطبقة الوسطى الأفريقية في العقدين الماضيين، فثُلث السكان الأفارقة يكسبون ما بين دولارين و20 دولارا في اليوم. بينما تظل الأغلبية الواضحة منهم في وضع اقتصادي هشّ، ويمكنهم أن يروا بسهولة انخفاض مستويات معيشتهم.

تأثير الطبقة الوسطى

هناك شعور بالتفاؤل بشأن دور الطبقة الوسطى، حيث ستكون اللاعب الأساسي في التنمية الأفريقية، خاصة إذا استمرت في الزيادة فمن المرجح أن تبشر بمستويات أعلى في التحصيل العلمي والتنمية وتحديث القطاع الزراعي، ولذلك فإنّ صعودها له آثار إيجابية على الأمن الغذائي الأفريقي، لكن له آثار سلبية أيضا.

ويستمر عدد الأفارقة الذين ينضمون إلى الطبقة الوسطى في الزيادة، وإن كان بمعدل أبطأ ممّا كان عليه في السابق، من المرجّح أن يكون صعود هذه الطبقة “سيفا ذا حدين” للأمن الغذائي في القارة، فمن ناحية سيؤدى ذلك إلى رفع القدرة الشرائية، ممّا يزيد الضغوط على المعروض من الإنتاج، لكن تحسّن التحصيل العلمي خاصة في المجال الزراعي سيدعم التنمية الزراعية ويؤدّي إلى تطوير الإنتاج.

وذكر بنك التنمية الأفريقي في تقرير هام له أنه بحلول عام 2010 كان حوالي 350 مليون أفريقي أي ما يعادل 34 بالمئة من السكان أعضاء في الطبقة الوسطى، ومع ذلك، فإنه يحذّر من أن حوالي 60 بالمئة منهم عرضة للسقوط في دائرة الفقر إذا حدث انكماش اقتصادي. وتشير التقديرات إلى أن الطبقة الوسطى سوف تستمر في التوسع إلى 1.1 مليار شخص أفريقي، أي حوالي 42 بالمئة من السكان بحلول عام 2060.

شركة ماكدونالدز تمتلك 177 مطعما في جنوب أفريقيا
شركة ماكدونالدز تمتلك 177 مطعما في جنوب أفريقيا

وينظر على نطاق واسع إلى الطبقة المتوسطة المتزايدة على أنها مفيدة للاستقرار السياسي وبالتالي، فإنها تحقق مستويات أعلى من الأمن، وبالتالي سيكون لهذا الوضع المستقرّ فائدة على شركات المنتوجات الغذائية الداعمة للأنظمة التي تسهل لها تجنّب الرقابة العامة والقواعد الصارمة التي من شأنها أن تحدّ من حرية بيعهم لمنتجاتهم، كما استثمار الأراضي وكل ما يوفر لهم المواد الأولية التي يحتاجونها لتصنيع منتجاتهم.

تشكيل الوعي

يرى عديد المحللين أن ارتفاع مستويات الثروة في القارة سوف يؤدى إلى ظهور طبقة من الناس على وعي سياسي تطلب دورا سياسيا أكثر بروزا، فعلى سبيل المثال يشير مثولي نكوبي، كبير الاقتصاديين السابق في البنك الأفريقي للتنمية، إلى أن الطبقة المتوسطة الناشئة في أفريقيا لديها القدرة على زيادة الاستهلاك المحلّي والمساهمة في نموّ القطاع الخاص وريادة الأعمال، وتعزيز الطلب على الحكم الرشيد والخدمات العامة وتحسين المساواة بين الجنسين ورفع مستويات المعيشة، مما يسمح للكثير من الناس بالخروج من الفقر.

ويمكن أن يؤدّي ظهور طبقة وسطى أفريقية قوية إلى انتشار وتوطيد الديمقراطية في القارة، وهذه وجهة نظر مشتركة تستند إلى ملاحظة قدّمها عالم الاجتماع السياسي بارينجتون مور والتي تقول إنه دون طبقة وسطى لا توجد ديمقراطية. لكنه أشار إلى أن المتغيّرات الأخرى تلعب دورها وتشكّل الاتجاه السياسي للمجتمع، فمن الممكن بالمثل أن يؤدي مجتمع أكثر انخراطا من الناحية السياسية إلى نتائج مناهضة للديمقراطية.

قدّمت الشركات العالمية في أميركا اللاتينية مبادرات لمكافحة الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية لمساعدة سياسيين معيّنين على تعميق قاعدة داعميهم السياسية. وفي بعض الحالات، تواصلت الشركات مع المجتمعات مباشرة.

وحققت شركة نستله مثلا شعبية بين الفقراء في البرازيل بعد أن قدّمت برنامجا لتوظيف السكان المحليين. كما نظمت كوكاكولا أحداثا رياضية ومبادرات في مجال الرعاية الصحية في المكسيك، مما جعلها جزءا من الثقافة المحلية.

عواقب وخيمة

شركات عالمية قدّمت في أميركا اللاتينية مبادرات لمكافحة الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية لمساعدة سياسيين معيّنين على تعميق قاعدة داعميهم السياسية. وفي بعض الحالات، تواصلت الشركات مع المجتمعات مباشرة
شركات عالمية قدّمت في أميركا اللاتينية مبادرات لمكافحة الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية لمساعدة سياسيين معيّنين على تعميق قاعدة داعميهم السياسية

يحذّر إدواردو غوميز، من أنه “سيكون للتحالفات التي أسستها الشركات الغذائية وشركات المشروبات الغازية اليوم عواقب وخيمة على السياسة في المستقبل، حيث ستضغط على السياسيين الذين استفادوا من هباتها لتخفيف القيود التي تحدّ من تسويق منتجاتهم وبيعها”. وأصبحت المكسيك نقطة انطلاق مهمة لهذا النمط الجديد من الأعمال.

هناك، أنشأت كوكاكولا شبكة قوية من المؤيدين داخل الحكومة، تمتد من الرؤساء إلى كبار مسؤولي الرعاية الصحية. وعملت شركة بيبسيكو على مستوى التعليم العام في البلاد عبر إنشاء برنامج مدرسي أعطاها قبولا سياسيا وحسّن من صورتها. وتمكّنت نستله من الفوز بدعم الرئيس السابق إنريكي بينيا نييتو عبر التبرع بالبسكويت لبرنامج حكومته الذي كان يهدف إلى مكافحة آفة الجوع في البلاد.

وامتدت استثمارات شركات الوجبات السريعة من السياسة في المكسيك إلى كافة أطراف المجتمع لتتجنّب النقد العام وتزيد من مبيعاتها. ورعت كوكاكولا عددا من الأحداث الرياضية وانضمت إلى شركات أخرى لتقديم منح للباحثين الأكاديميين والمنظمات غير الحكومية. كما دعّمت الشركة منظمة غير حكومية مكسيكية لمكافحة مرض السكري، حيث نظمت عروضا أكد العلماء خلالها على أهمية ممارسة الرياضة دون التركيز على وجوب تحسين النظام الغذائي.

وفي الوقت الذي تحارب فيه دول كثيرة، مثل المكسيك، السمنة التي ارتفعت معدّلاتها من 10 إلى 35 بالمئة من سنة 1980 إلى 2012، تتمتع شركات الوجبات السريعة بتأثير على الرأي العام في ما يتعلق بمسائل التغذية والصحة. وتشهد البرازيل ديناميكية مماثلة، حيث تُعتبر شركة نستله لاعبا قويا. فخلال فترة ولاية لويس لولا دا سيلفا، نجحت الشركة السويسرية بالتعاضد مع أعضاء الكونغرس والتأثير عليهم، بعد أن قدّمت مساعدات لتطوير البرنامج الرئاسي الهادف إلى مكافحة الجوع وتبرّعت بالأغذية للفقراء.

في المقابل، مدح رئيس البرازيل هذه الجهود وساعد الشركة على فتح مصنع جديد في ولاية باهيا سنة 2007. بالنسبة إلى شركة نستله، لم يكن الاستثمار في الفقراء مجرّد فوز سياسي، بل كان وسيلة لحماية صورة الشركة من النقد وضمان ارتفاع مبيعاتها بين السكان، حيث أن الشركة أنشأت برنامجا لتوظيف الفقراء أين قدّمت لهم رواتب ساعدتهم خلال فترة الركود التي شهدتها البلاد سنة 2011 أمام ارتفاع معدل البطالة.

12