سألني عن نظارتي.. فأبصرت إنسانيته

في بداياتي الصحفية، كنت مجرد طالب شغوف بالكلمة، أتنقل بين مقاعد معهد الصحافة في تونس وصفحات صحيفة “العرب” التي كنت أحرص على قراءتها بانتظام. لم أكن أتوقع أن تأخذني الأقدار بعد سنوات قليلة إلى داخل المؤسسة نفسها، كأحد محرريها، وتحديدا منذ سنة 2018. هناك، بدأت أكتشف العالم الحقيقي للصحافة، بكل ما فيه من التزام، انضباط، وأحيانا صرامة… لكنني أيضا اكتشفت وجها آخر، لم أعهده من قبل في أي إدارة، وكان عنوانه: الدكتور هيثم الزبيدي.
منذ الأيام الأولى، سمعت عن “صرامته”. الكل تحدث عن الدقة والانضباط، وعين لا تغفل عن التفاصيل. لكنني سمعت في المقابل عن كرمه، وإنسانيته، واهتمامه بوضعية العاملين النفسية والاجتماعية والمادية، دون استثناء ولا تمييز.
أول محادثة جمعتني به كانت في فبراير 2018، بعد شهرين فقط من التحاقي بالصحيفة كمتدرب. رحّب بي دون تكلّف، تحدث ببساطة شديدة، ونزع عني عباءة الخوف من المستقبل. قال لي بثقة “اجتهد، ولا تفكر كثيرا في إن كنت ستواصل معنا أم لا… دع العمل يتحدث عنك.” كسر بذلك حاجزا نفسيا كنت أحمله، فشعرت بأمان لا توفّره عادة المؤسسات للمتدربين.
الدكتور هيثم الزبيدي لم يكن فقط مديرا ناجحا، بل كان إنسانا كريما، نزيها، رحيما في مواقع تحتاج إلى القسوة، شجاعا في زمن يهرب فيه كثيرون من المواقف
لكن اللقاء الذي لا أنساه، وجعلني أرى فيه الإنسان قبل المسؤول، كان حين استدعاني إلى مكتبه في مقر الصحيفة بتونس سنة 2022. حدّق فيّ للحظات، ثم فاجأني بسؤال مباشر “هل هناك شيء طبي يمكنك من الاستغناء عن نظارتك السميكة؟” لم أكن أفكر في الأمر، ولا أتوقع أن يلاحظه أحد. أجبته “نعم، هناك عملية جراحية ممكنة.” فقال ببساطة “توكل”. يومها تكفّل الدكتور هيثم بكامل تكاليف الفحوصات والعملية، والتي كانت زرع عدسة بسبب قصر نظر حاد كنت أعاني منه.
نجحت العملية، وعدت إلى العمل بعد شهرين، لكنّ المفاجأة أن الدكتور لم ينسَ، بل اتصل بي أكثر من مرة للاطمئنان على صحتي. لم تكن اتصالاته مجاملة، بل نابعة من اهتمام صادق ونبل نادر.
كان الدكتور هيثم أكثر حرصا من الموظفين على إزالة حواجز التواصل فأنت كمحرر في الصحفية لا تحتاج إلى استئذان أو موعد للحديث معه في أي موضوع تشاء.
لقد علّمني الدكتور هيثم الزبيدي، رحمه الله، درسا في الإدارة، وفي الإنسانية، وفي كيف يمكن أن تخلق الفرق في حياة شخص دون أن تنتظر شيئا في المقابل. لقد كان أكثر من مدير… كان مثالا. ومثله لا يُنسى.
لم تكن التفاتة الدكتور هيثم الزبيدي تجاهي، بل كانت امتدادا لطريقته الفريدة في الإدارة. لم يكن يرى في المحرر مجرد موظف يؤدي مهام يومية، بل كان ينظر إليه كمشروع صحفي يجب رعايته وتوفير مناخ الإبداع له.
في زمنٍ تعاني فيه مؤسسات كثيرة من عقلية الاحتكار والوصاية على الكفاءات الشابة، كان الدكتور هيثم يسير عكس التيار. كان يُشجع على التطور، على المغامرة المهنية، على الحلم. لم يكن يخشى أن تبرُز أنت كصحافي شاب، بل كان يفرح بذلك. بل كان يقولها صراحة: “التجربة في صحيفة "العرب" تفتح لك آفاقا أرحب، ولا شيء يسعدني أكثر من أن أراك تتطور وتلتحق بمؤسسات عالمية كبرى.”
كان الدكتور هيثم أكثر حرصا من الموظفين على إزالة حواجز التواصل فأنت كمحرر في الصحفية لا تحتاج إلى استئذان أو موعد للحديث معه في أي موضوع تشاء
كم مسؤول يقول مثل هذا؟ قليلون، بل نادرون. كثيرون يرون في تطور المتدرب تهديدا أو “خيانة للجميل”، أما هو فكان يرى في ارتقائك نجاحا له وللمؤسسة التي احتضنتك أولا.
كان يمنح المحررين حرية التجريب، يشجع على الأفكار الجديدة، لا يطفئ جذوة الحماس إن شعرت أنك مختلف، بل يضيف إليها زيتا من ثقته، من تجربته، من دعمه الهادئ. لم يكن يطارد المجد الشخصي، بل كان يزرعه في الآخرين.
الإنسان الذي يفعل كل هذا، لا يموت فعلا. تبقى مواقفه حيّة، تتكرر في ذاكرة كل من عمل معه، وتتحوّل إلى مدرسة، إلى مرجعية أخلاقية ومهنية.
الدكتور هيثم الزبيدي لم يكن فقط مديرا ناجحا، بل كان إنسانا كريما، نزيها، رحيما في مواقع تحتاج إلى القسوة، شجاعا في زمن يهرب فيه كثيرون من المواقف.
واليوم، ونحن نعيش في مشهد صحفي تتقاذفه الضغوط، وتغلب عليه الحسابات الباردة، يحتاج الجيل الجديد من الصحافيين إلى التذكير بأن هناك من مرّ من هنا وترك الأثر الجميل لا بصراخ ولا بإملاءات، بل بالفعل النبيل والكلمة المشجعة والموقف الأخلاقي.
تجربة الدكتور هيثم الزبيدي ليست مجرد محطة في تاريخ صحيفة “العرب”، بل هي دعوة مفتوحة لكل مدير ومسؤول ومدرب، أن يؤمن بأن الاستثمار الحقيقي ليس في المقالات وحدها، بل في البشر، في منحهم الثقة، في مساعدتهم على الطيران حتى لو كانت وجهتهم خارج سربك.
لجيل الصحافيين الجدد أقول: لا تخافوا من أن تحلموا، ولا تيأسوا إن تأخر التقدير. فهناك دائما في هذا العالم أشخاص مثل الدكتور هيثم، يصنعون الفرق في صمت، ويمدّون أيديهم للموهبة حين تطرق الباب بخجل.
رحمك الله، دكتور هيثم الزبيدي، فقد كنت النبل حين صار نادرا، والبوصلة حين تاه كثيرون.