المُستحق على الفلسطينيين بعد البحرين

انفضّت ورشة البحرين أو مؤتمر “الازدهار من أجل السلام”. ولأن الفعالية بدأت مقلوبة، فإن أحداً لم ولن يعرف كيف انتهت. وربما يكون بعض الحاضرين، لاسيما من رجال الأعمال أو الذين ذهبوا بهذه الصفة، قد وضعوا في الحسبان، أنهم ذهبوا إلى خطوة استباقية، قوامها الرغبة في المشاركة الاستثمارية الربحية، بعد أن يتحقق نوعٌ من السلام، مستأنسين في ذلك بفكرة لا يزال يقوم حولها جدال، وهي أن الولايات المتحدة هي القوة القادرة على أن تحسم، بخاصة لكونها أولا، هي السند الأساسي لإسرائيل، وثانيا لأن مواقف الإدارة الأميركية الراهنة تتماهى مع مواقف الحكومة الإسرائيلية الراهنة. ويمكن أن نعتبر هذه الفكرة إحدى الفرضيات العديدة، التي من شأنها إضعاف صدقية مثل هذه الورشة، وجدية سياقها من الناحية العملية، لأنها حجة عليها وليست حجة لها.
معلوم أن الاستثمار والازدهار، يقومان على التسوية السياسية المتوازنة، ولا تقوم الأخيرة عليهما. وقلنا مرارا إن أول ما يتطلبه الاستثمار، وكذا الازدهار، هو أن تتوافر بيئتهما المناسبة. فإن كانت هذه الحقيقة لا مراء فيها على مستوى النزاعات في أي بقعة، فإنها بخصوص النزاع في فلسطين، تُعتبر الموضوع الشرط الأساس. ذلك لأن مثل هذا المنطق المقلوب، لم يقترن في التاريخ إلا بتجارب الغزو العسكري.
وعندما يأخذ به طرف منحاز لإسرائيل، فإنه لا يأتي بجديد، لأن مثل هذا المنطق، استخدمه الغُزاة قبل ميلاد المسيح بنحو أربعة قرون. فهذا فيبلوبوس الثاني، ملك مقدونيا الإغريقي، يوصي ابنه الإسكندر الأكبر قبل خروجه إلى الغزو “يا بُني، إذا استعصى عليك أن تفتح بلدا، فأرسل إليه بغلا محمّلا بالذهب”. أما على مستوى العلاقات الإنسانية بين البشر البسطاء، فلن يوافقك الفقير عندما تقول له سأعطيك مليون دولار إن فعلت ما أطلبه منك. فقد يوافقك أو يرفض عرضك، بعد أن يعرف بالضبط ما الذي ستطلبه منه!
كان لافتاً الإكثار من ترديد تعبير الاستثمار في الأراضي الفلسطينية، وفي جوارها العربي، لتحقيق الازدهار. على الرغم من ذلك، لم يطرح أي خبير، ناهيك عن أي مشارك قادم من كواليس السياسة، شيئا يوضح نوع الاستثمار المُضمر، بينما أنواع الاستثمار كثيرة. فهناك الاستثمار الوطني والاستثمار الأجنبي، والاستثمار المباشر، والاستثمار المالي، والبشري، وقصير الأجل، وطويل الأجل، وذو العائد البطيء وذو العائد السريع، والاجتماعي والاستراتيجي والتطويري وغيرها. كما أن دوافع الاستثمار تتنوع، ومن بينها تخليق رأس المال الاجتماعي، وبناء التنمية الاقتصادية، وتوفير الموارد البشرية الماهرة أو المتخصصة، وأهمها أو أقربها إلى الحضور في موضوعنا، هو تأمين الاستقرار السياسي والاقتصادي!
أمام هذه المحددات، يصح التساؤل: أين هو الوضع السياسي الذي يراد له أن يستقر باقتصادياته، لكي تقام من أجله ورشة، أو يُعقد مؤتمر، ليبحث في آليات وكيفيات وأحجام الاستثمار لتحقيق الأهداف المرجوّة؟
إن الذي سبق ورشة البحرين التي دعا إليها الأميركيون، لا يبعث على التفاؤل. ولا يختلف اثنان، على أن “الوسيط” عندما يسحب ملفات ذات موضوعات جوهرية، من جانب واحد، عند معالجته أي قضية، ويفعل ذلك بمنطق الإكراه، يضرب في مقتل أهليته للوساطة.
فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، أنزل من على طاولة المفاوضات، ملف القدس، وبالجملة ملف اللاجئين، وفي المعيّة سحب حيثيات مهمة من ملف الاستيطان في الضفة، واستكمل السحب من ملف الاستيطان، سفيره لدى إسرائيل، وللتأكيد على هذا المنحى سحبت إدارة ترامب، من التداول، ملف الأراضي السورية المحتلة كله، من خلال اعتماد قرار الضم الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية المحتلة بقوة السلاح، فلم يعد حتى لموظف في الاستخبارات الأميركية من أصل سوري، أي مدخل لمناقشة قضية السلام. لذا إن كل ما سبق ورشة البحرين، سيجعل من دعا إليها كمن يَرقُم على الماء، مثلما قالت العرب!
ردة الفعل الفلسطينية على الورشة، كانت مناسبة نادرة لإجماع الفلسطينيين على موقف. وقد حضر الحاضرون محرجين، لا يخفف من حرجهم تخفيض مستويات التمثيل. بل إن البحرين، ملكا وحكومة وشعبا، وجدوا أنفسهم في موضع النقد المرير، بعد تاريخ طويل من مساندة البحرين للقضية الفلسطينية. فلم ينفع الشرح والتأكيد على حُسن المقاصد، لا من البحرين ولا من الوفود العربية الحاضرة.
المُفزع أكثر في ضجيج هذه الفعالية، أنها جاءت متزامنة مع التوتر الحاصل في منطقة الخليج، حيث ترتفع وتائر المواجهة الأميركية الإيرانية، وهو الأمر الذي يمنح إيران مكافأة تعبوية مجانية، وربط ما جرى في البحرين، بسياق مشكلتها مع الأميركيين، لتنفرد هي وكأنها الطرف الممانع الوحيد، فتستثنيها المطولات الهجائية من الذم، رغم دورها في مفاقمة الأزمات في المشرق العربي، فقد كان الموقف منها أقرب إلى المديح.
ربما كان، ولا يزال، الحاضرون العرب، متمسكون بموقفهم الإيجابي حيال مرجعيات عملية التسوية، ويعلمون أن ورشة كهذه، لن تراكم عناصر الحل من وراء ظهر السياسة. لكن الحضور نفسه، وضعهم في الموقف الخطأ، رغم محاولة جاريد كوشنير تخفيف الحرج على الجانب العربي، بالإشارة إلى “المبادرة العربية للسلام” باعتبارها لا تزال عنصرا معتمدا، وهذا كلام -كما ينبغي التذكير- بلا معنى، إن نظرنا إلى المواقف الأميركية الاستباقية، وإلى “ثوابت” بنيامين نتنياهو!
لعل أبسط ما يقال، بالتعبير الدارج، هو أن الأميركيين وضعوا العربة أمام الحصان، فلا العربة ستتحرك، ولا الحصان سيخطو. فوق ذلك كله، لم يكن الإجماع الفلسطيني على رفض الورشة، التي رموها جميعا عن قوس واحدة؛ أمرا ذا فائدة طالما أنهم منقسمون.
فإن كانوا قد حسموا أمرهم سلبا حيال ورشة البحرين؛ فإن أمرهم بينهم، وهو الأساس والأهم، لا زال في حاجة إلى الحسم الإيجابي بإنهاء الانقسام والتوافق على إستراتيجية عمل وطني واحدة، وطنية واقعية صارمة، ليست خشبية نرجسية ذات وعود قصوى بينما الحال مائلة، ولا رقيعة هزيلة في السياسة تجلب الهوان لنفسها.
فعلى الفلسطينيين بعد البحرين، أن ينظروا إلى بحرهم لكي يعرفوا كيف يكون الإبحار!