القائد لا يتردّد

لم تحن ساعة الفراق، ربما لن يكون هناك فراق، قد يكتب لفصول الحكاية أن تستمر بلا نهاية، ربما قد تكتب هذه الفصول مستقبلا بطريقة جديدة مستحدثة ومبتكرة، المهم أن لا تنتهي هذه الحكاية بالفراق.
المشاهد الوفي أدمن هذه العلاقة حتى باتت مسألة التصاق وعلاقة لا تقبل الفراق، فالمسألة بالأساس هي قصة كتيبة وقائد، قصة فريق ارتبطت نجاحاته لحوالي 14 سنة مع “مجند” تم الإتيان به صغيرا، فوقع صقله وتنمية موهبته حتى صار القائد، فهل للقائد أن ينسحب؟
حتى وإن أعيته الحيلة، حتى وإن خانته القوة، حتى وإن أصابه التقدم في العمر بالإعياء والوهن، سيظل دوما رمزا، سيتحول إلى مستشار أو أكثر ربما يتحول ليصبح في مرتبة “العرّاب”، فالمهم في هذه الحكاية هي أن تستمر، لا يجب أن يعكر صفوها أي شيء.
هي حكاية مسيرة النجم الإسباني سيرجيو راموس مع ريال مدريد، هي حكاية لاعب أتى إلى البيت الملكي سنة 2005، لقد حلّ ركبه بين عمالقة ونجوم الريال في ذلك الزمان، لأنه لاعب موهوب ومدافع رائع ذاع صيته مع فريقه الأم إشبيلية وأدهش كل إسبانيا بإمكاناته الرائعة.
كتب له أن يعيش حقبة “الغلاكتيكوس” في الفريق مع نجوم من الصف الأول مثل رونالدو البرازيلي وزيدان وبيكهام وكارلوس وراؤول.
لقد أتيحت له الفرصة كي يلعب إلى جوار لاعبين يعتبرون من أساطير اللعبة في العالم، ومن عايش هؤلاء اللاعبين، من حقه أن يتفاخر ويشكر الحظ الذي جعله يتعلّم منهم ويسير على خطاهم.
تألق راموس بسرعة وبات من الركائز في الفريق، غدا عنصرا مؤثرا لا غنى عنه، لقد ساهم في الحصول على عدد كبير من التتويجات.
مرت السنوات، بدأت نجوم “الغلاكتيكوس” تأفل، كاد العقد الفريد ينفرط، لقد رحل فيغو وزيدان وبيكهام ورونالدو وكارلوس، حتى راؤول ذلك النجم الأسطوري لم يصمد، لقد أنهك بدوره بسبب مفعول الزمن، لم يعد لديه مكان في البيت الذي يتسع للجميع، أجبر على الرحيل إلى شالكه، وفي هذا الخضم كانت الرقعة التي يسيطر عليها “الغلادياتور” راموس تتسع يوما بعد يوم، لقد غزا قلوب عشاق الريال واحتل مكانة رفيعة في القلعة.
رحل النجوم السابقون، وقدم اللاحقون، جاء رونالدو البرتغالي، حل ركب مارسيلو وبن زيمة ومعه بيل، قدم بعد ذلك مودريتش.. مع مطلع كل موسم يغادر البعض ويأتي البعض الآخر، حدثت تغييرات جوهرية، ووسط كل هذه التغييرات صمد “صخرة الدفاع” في مكانه، بل الأكثر من ذلك أنه بات القائد الأول بلا منازع، لا أحد قادر على زعزعته من مكانه، فهو كالشجرة كلما تطلعت إلى عنان السماء كلما بثّت عروقها في مختلف الأرجاء.
حدث كل هذا، لأن راموس لعب دوما الدور بكل رباطة جأش، تقمص دور المنقذ والقائد المجازف. أتتذكرون ذات دور نهائي ضمن دوري أبطال أوروبا من سنة 2014 عندما كان الريال قريبا للغاية من خسارة اللقب ضد أتلتيكو مدريد؟ أتتذكرون ماذا حدث؟
الأكيد أن البعض يتذكر جيدا ما قام به راموس، فهذا المدافع سبق الكل، كان أقوى من الجميع ونجح في تعديل النتيجة في الدقيقة التسعين، لقد أبقى فريقه في المباراة وساهم في حصول الريال على “العاشرة” أوروبيا.
لم يقتصر تأثير سيرجيو في تلك المباراة فحسب، بل غالبا ما كانت أهدافه الغزيرة، رغم كونه مدافعا، حاسمة للغاية، لطالما تحمل العبء وأثبت أنه يستحق لقب القائد، حتى في زمن الخسارة كان لا يختبئ، بل يتحمل مسؤوليته كاملة.
لاعب مثالي بمثل هذه المواصفات، استحق أن يتوج بكل الألقاب الممكنة عالميا، فتوج مع الريال في مختلف المسابقات وأهمها دوري الأبطال في أربع مناسبات، الأكثر من ذلك أنه انتمى إلى الجيل الذهبي للمنتخب الإسباني فرفع كأس العالم وكأس أمم أوروبا في دورتين متتاليتين.
كل هذا الزخم من الألقاب والتتويجات، ألا يمنح راموس لقب القائد ويوشّحه بوسام الأساطير؟
فكيف لهكذا نجم وأسطورة أن يكتب بنفسه نقطة نهاية الحكاية؟ قطعا لا، ففي الأمر خطأ وسوء فهم، والأمر يستوجب التنويه والتصحيح.
فخلال الأسابيع الأخيرة تحدث البعض عن نهاية رحلة راموس مع الريال، تم الحديث عن وجود عرض صيني مغر، وقعت الإشارة إلى وجود برود في علاقة اللاعب مع رئيس النادي.
صمت راموس لفترة، كان صمتا مريبا دفع البعض إلى تبني مختلف الأقاويل التي أصدرت حكما باتا بنهاية القصة. لكن مثلما كان دائما حاسما وواثقا، قطع القائد الشك باليقين، فتحدث كما لم يتحدث من قبل، وأعلن دون تردّد أن مقامه الوحيد لن يكون سوى في مدريد. قال إنه لن يغادر وسينهي مسيرته في القلعة البيضاء، أعلن أنه سيرفض كل أموال الدنيا، قالها بالحرف الواحد “لن أترك ريال مدريد، سألعب هنا بالمجان”.
ومن يكن يوما قائدا حقيقيا لا يستسلم، لا ينحني حتى وإن هبت في وجهه الرياح، فالقائد المثالي لا يتردّد، فهو ذلك البطل التي يتفنن في صياغة فصول الحكاية علّها تكون بلا نهاية.