فنانون رسموا ذواتهم من الداخل وغيّروا حقيقة الجسد

في لوحات الفنان المغربي عبدالكريم الوزاني اشتغال تاريخي لفنانين ممن تحوّل العالم لديهم إلى أحاسيس وانفعالات، تسكن التقاسيم والملامح والغضون والنظرات.
الأربعاء 2019/05/15
تحويل الأجساد إلى موضوع (لوحة للفنان عبدالكريم الوزاني)

ذات الكاتب أو الفنان عندما تكون موضوعا إبداعيا سواء في نص مكتوب أو لوحة او غيرهما، ليست تعبيرا نرجسيا ولا هي حالة مرضية، كما تقر النظرة السطحية والشكلية، بل هي ذات أخرى، أكثر صدقا في انطلاقها من الذات الحقيقية، ولكنها عبارة عن مجموع ذوات، اندمجت في ذات المبدع لتخرج إلى العلن من عظامه ولحمه من أفكاره وأحلامه، إنها تنتقل ببساطة من الفكرة المجردة إلى الكيان المخلوق.

من أكثر اللوحات طرافة في مشغل الفنان المغربي عبدالكريم الوزاني تلك التي تصوره شبه مشنوق من ربطة عنق حمراء، تتجمد العينان في محجريهما، ويتكلس الوجه، مع وجوم باد، وملامح لا تخلو من إيحاء ساخر. وكانت اللوحة إيذانا بوضع يكاد يخنق الفنان، إبان انتقاله لعمل إداري كاد يجهز على حريته وانطلاقه، هو المستكين لولعه في تدريس النحت والانهماك في مشغله.

وفي لوحات كثيرة لمجايليه ولطلبته، نكتشف، دوما، وجود صور شخصية، تتراسل مع ذاكرة فن تولع بتمثيل الذات، لينتقل في مرحلة معينة إلى أن يحول الأجساد والوجوه والأعضاء إلى موضوع دائم، واشتغالي تاريخي لفنانين ممن تحول العالم لديهم إلى أحاسيس وانفعالات، تسكن التقاسيم والملامح والغضون والنظرات.

اختزال الزمن

في هذا الانحياز، يطالعنا، باستمرار، سؤال جوهري، يكاد يختصر تواترات تاريخ الفن والأساليب والصيغ والتيارات الجمالية، يتعلق أساسا بالحقيقة التي يسعى الفنان لفهمها ومحاصرتها؛ هل هي شيء آخر غير ذاته؟ وبتعبير مختلف: هل يبرح الرسام مثاله الذي يعيشه يوميا، بأعضائه ومفاصله، بجوعه ومرضه، بتغضن البشرة وانفلات اليفاعة من ذاته؟

لم تكن مئات اللوحات التي أنجزت من قبل رامبرانت وفان غوخ وغويا، لوجوه بسمات مدوخة تقول ذواتا خرساء، مأخوذة بحماقاتها فقط، بقدر ما كانت تنقل شيئا مفارقا، يراه الآخرون عن الزمن والمحيط والسعادة والخيبة والتآكل المطرد، الذي لا تكون فيه الذات والوجه والجسد إلا سندا وحاملا للعالم.

في الفصل الأول من كتاب “الكلمات والأشياء”، المخصص للوحة “الوصيفات” للفنان الإسباني بيلاسكيز، يتحدث ميشيل فوكو بكثير من اللماحية عن وضع الرسام، في لوحة تعارك الحقيقة، حيث يقول “ربما كان في لوحة بيلاسكيز الاختفاء الضروري لما يؤسسه، لما يشبهه، ولمن هو في نظرة ما ليس سوى شبه. إن هذا الفاعل نفسه الذي هو الذات، قد حذف، وبما أن التمثيل (التصور) قد تحرر أخيرا من هذه العلاقة التي كانت تقيده، فإنه يستطيع أن يقدم نفسه كتمثيل محض”.

مضاهاة الحقيقة في زمنيتها
مضاهاة الحقيقة في زمنيتها

الشيء الأكيد أن الأمر يتعلق بصورة تقوم على صورة أصلية، ثاوية في مرآة، لا تعكس موضوعا آخر إلا شخص الرسام، قبل أن تلتحق بالمشهد الأميرة والوصيفات، بوصفهن متفرجات، حيث احتللن صلب اللوحة، دون أن يشكلن قطبها المفرد لتمثيل الذات. لكن التمثيل في مجمله لم يبرح لحظة وجود الرسام عينه، مشخصا لعمله كناقل لملامح آخرين غير مرئيين في اللوحة، بينما يحضر الجمهور الذي كان في الأصل هامشيا. وتكاد لوحة “الوصيفات” في هذا التشوف تحديدا، تمثل ما عبر عنه عدد كبير من مؤرخي الفن بمضاهاة  “الحقيقة” في زمنيتها.

ولعل اقتران الذات بالحقيقة في عدد كبير من النصوص المتعلقة بتمثيل الشغف الفني في الرسم والنحت والتصوير، أن يعيد تخييل المعنى الذي يسعى التعبير لقوله، بعيدا عن تفاقمات تفاصيل المحيط والعالم، فسرعان ما يبدو التصنيف الأسلوبي والأداتي والتاريخي مبنيا على مفاهيم الوسيلة المتصلة بهذا التمركز المحير، والملغز دوما، والمتخذ لأشكال متباينة، من مفهوم: “المحاكاة” إلى “الانعكاس”، إلى “التعبير”، إلى “التجسيد”، إلى “التشخيص” إلى “التجريد”…، حيث يكون السؤال الطارئ باستمرار هو: التعبير عن من؟ وعن ماذا؟ وتجسيد من وماذا؟ خارج الإحساس اللاعج باختزال الزمن، والمحيط والأرض والحرية والموت في جسد خاص يعبره الآخرون.

الحقيقة الفردية

أعيش منذ سنوات تجربة الإشراف الجامعي على عدد من المشاريع الفنية التي تنطلق من الذات، سيرتها، محنها وأحلامها، أصولها وثقافتها ولغاتها، جغرافيتها المحلية، محيطها العائلي الضيق، قبل أن تكون حافزا لمشروع فني عن الهوية أو الجسد أو الرؤية أو العذاب أو الحرية أو الانشطار. وكان النقاش الأكاديمي يتخذ، في الغالب الأعم، منطلقا خاطئا مع زملاء عديدين، ممن يرون في الظاهرة زيغا مرضيا، غير مجد. ولم أكن يوما منساقا إلى هذا القياس، في التعاطي مع المشاريع والأسماء الجديدة، من المنطلق ذاته الذي اعتقدته دوما، والذي يفترض أن الفن لا يمكن أن ينطلق خارج الحقيقة الفردية والخاصة.

وفي قراءة هذا الهوس الفني، كانت الرواية مسعفة في التأصيل والتفسير على حد سواء، ولعل العبارة الشهيرة لغوستاف فلوبير هي الأكثر دلالة في هذا السياق، حين قال تعريفا بشخصية بطلة روايته “مدام بوفاري”: “أنا هو إيما بوفاري”؛ فمن مظاهر عبقرية الرواية تشخيص الامتناع، وعسر التحقق، امتناع الثروة، وامتناع السلطة، وامتناع التفوق، وامتناع الانتصار، لكن أحد أهم الامتناعات في تاريخ الرواية ذلك الذي يصور امتناع الحياد، وعدم تورط الذات في تفاصيل المحكي.

 في كل الأعمال الخالدة ثمة ملامح ذاتية في شخصية ما. تعكس ولع التماهي التعبيري، وتترجم استيطان الذات لتفاصيل الوجوه والسلوكات والصور الروائية، تلك التي تجعلنا نتعرف على معاناة دوستيوفسكي في شخصية: “المقامر”، ونجيب محفوظ في “كمال عبدالجواد”، مثلما نتعرف على أنداد وأصدقاء ورصفاء كانوا جزءا أصيلا من ذوات روائيين، كتبوهم ليصوروا تمثلهم لهم، ذلك على الأقل ما يخبرنا به النص الشهير لإيمل زولا “التحفة” الذي ما كان ليكتب لولا الصداقة التي جمعت الروائي بالرسام بول سيزان.

الفن لا يمكن أن ينطلق خارج الحقيقة الفردية والخاصة
الفن لا يمكن أن ينطلق خارج الحقيقة الفردية والخاصة

 

15