شركات سبر الآراء.. التشكيك في الأرقام أسهل ما يفعله الفرقاء السياسيون

ما قاله الرئيس الباجي قائد السبسي، يوم الأحد 06 مايو في كلمته الموجهة للشعب التونسي، بمناسبة حلول شهر رمضان، حول أن البلاد تعيش حمى انتخابية حسب تعبيره، مشيرًا إلى الجدل حول مؤسسات سبر الآراء “التي تجعل المرشح في القمة في الصباح وفي قاع الترتيب في المساء” داعيًا إلى عدم أخذ نتائجها مأخذ الجد، لا يختلف هذا الكلام عما ورد في البيان الصادر عن حزب حركة النهضة يوم الأربعاء 04 مايو، وعبرت فيه عن رفضها لهذا التمشّي في توجيه الرأي العام، معتبرة أن “المبررات التي تقدمها مؤسسة سبر الآراء “سيغما كونساي” في كل مرة لتغليف النتائج، هي مجرد تلاعب بالمعطيات والأرقام لا أكثر ولا أقل”.
ما يتضح من خلال هذا “التوافق” بين الحزبين المتنافسين، في الرأي والموقف من شركة سبر الآراء المذكورة، أن كل حزب يرضى عن نتائج استطلاعات الرأي حين تضعه في المقدمة، ويغضب ويتّهمها بالفبركة، حين لا تأتي النسب والأرقام على مزاجه.
ليس دفاعا عن مؤسسة دون غيرها في عمليات سبر الآراء، وتنزيهها عن مختلف الحسابات السياسية، وفصلها عن الجهات التي تدعمها، فهذا الأمر ما زال يثير الجدل حتى في بعض الديمقراطيات المتقدمة، لكن لا أحد ينكر أنها تعكس في قسم كبير مما تقدمه من أرقام، توجهات الناخبين، ومزاج الرأي العام، وإلا فلماذا تكتسي مراكز استطلاع الرأي كل هذه الأهمية في الدول المتقدمة ثم أن بإمكان القانون ضبط عملها ومنعها من التسييس والولاءات المشبوهة عبر ضبط آليات عملها؟
الناس، بطبيعتهم، مزاجيون. والشارع متقلب في كل البلاد، وذلك بحسب ما ينتظره من وعود تخص أحواله المعيشية والضريبية.. فلماذا نضع اللوم على الأرقام في تبدلها طلوعا أو نزولا، ونتجاهل واقع الحيرة والتخبط الذي أوصلتنا إليه الأحزاب عبر وعود تقدمها في الصباح، وتحنث بها عند المساء؟
لا ينكر التونسيون أن قسما كبيرا منهم كان قد تعاطف مع حزب حركة النهضة أول الإفراج عن قياداتها وبداية ترصيص صفوفها بعد 14 يناير 2011، لكن الذين كانوا قد أعطوا الإسلاميين أصواتهم سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل ما زالت تكبر وتتفاقم، نتيجة ما آلت إليه حال البلاد والعباد.
كل حزب يرضى عن نتائج استطلاعات الرأي حين تضعه في المقدمة، ويغضب ويتّهمها بالفبركة، حين لا تأتي النسب والأرقام على مزاجه
كيف لا تريد حركة النهضة في تونس أن تقتنع بأنها لم تعد “على مزاج التونسيين”، وتكابر على نفسها عبر التشكيك في كل استطلاع للرأي يوحي بتراجعها على طريقة “عنز ولو طارت”.
نتائج سبر الآراء التي نشرتها مؤسسة “سيغما كونساي” في تونس، يوم الجمعة 3 مايو 2019، نزلت بحظوظ الحركة في الانتخابات التشريعية المقبلة، من نسبة 33 بالمئة في شهر فبراير 2019 إلى 18 بالمئة في موفى شهر أبريل الماضي، مقابل صعود لبعض الأطراف السياسية الجديدة مثل حزب حركة “تحيا تونس″ والحزب الدستوري الحرّ.
هذه النتائج لم ترق لحركة النهضة، ولا لحزب نداء تونس، لذلك استاء منها الطرفان، وسارعا إلى التشكيك في مصداقية الجهة التي قامت بسبر الآراء، لكن هذا لا يعني أن مؤسسات استطلاع الرأي لا يأتيها الباطل من خلفها، وتتمتع بمنتهى الموضوعية والنزاهة والحرفية.
لا بد من وضع آليات عملية لمراقبة عمليات سبر الآراء ومنع العبث بنتائجها، وهو أمر في عهدة السلطة التشريعية التي ينبغي أن تعمل على تنظيم هذا المجال الذي يقول مراقبون إنه يشهد بعض الفوضى في تونس حيث ينشط ما يقارب 30 مكتبا في عمليات سبر الآراء، يعمل قسم كبير منها دون غطاء قانوني.
عمليات سبر الآراء، بحسب المتخصصين، والذين يعتمدون على خبرات مدربة ومتخصصة، لا يمكن قراءة أرقامها بشكل عشوائي وانطباعي بل يعتمد فيها المحللون على نسبة الأصوات من نوايا التصويت المعلنة حتى تسهل المقارنة وفهم دلالات الأرقام في سياق انتخابي حقيقي.
ليس أسهل من التشكيك في الأرقام، إن جاءت على عكس ما يتمنون أو يتوقعون لدى الغوغائيين من السياسيين وغير السياسيين في العالم العربي، ذلك أن غالبيتنا لم تتشبع بثقافة قراءة الاستبيانات والانطلاق منها قصد الوصول إلى النتائج المرجوة.
ومنذ بداية تلمس الطريق نحو التحول الديمقراطي، أدركت نخب تونسية أهمية عمليات سبر الآراء في بناء التعددية السياسية، لذلك بادرت بعض مؤسسات المجتمع المدني إلى الاستعانة بخبراء أوروبيين مثل الفرنسي إيمانويل روفيير، الذي دعا في مداخلته بأحد المنتديات إلى تكريس مشروعية عمليات سبر الآراء باعتبارها وسيلة لفهم الرأي العام وتقصي نوايا التصويت خلال المحطات السياسية على غرار الانتخابات، مؤكدا أهمية وضع شروط لصناعة عمليات سبر الآراء وبثها واستغلالها.
قد تكون هناك إرباكات كثيرة في عمل شركات سبر الآراء في تونس، سببها قلة الخبرة وعدم اعتياد الناس على مثل هذه الآليات، بالإضافة إلى تهافت المال السياسي الذي من الممكن أن يؤثر على عملها، لكنها تعطي مؤشرات حقيقية على توجه الناخبين، وحتى على ترددهم وتذبذب الكثير منهم في التصويت لحزب دون آخر.. فلماذا نشكك في صحة الأرقام ونسارع إلى الطعن في نزاهة شركات سبر الآراء؟ دعونا نستفد من تعددها كما هو الحال في القبول بتعدد الأحزاب.. أليست هذه هي الديمقراطية؟