تقنية "إخراج الكلام من سياقه" وسيلة للتلاعب بالإعلام التونسي

توظيف المشاهير في السياسة كتوظيفهم في الإعلانات التجارية.
الاثنين 2019/05/06
الغنوشي نزع عن نفسه صفة الشيخ وأصبح يلقب بالأستاذ

واكب الانتقالَ الديمقراطي في تونس انتقالٌ في أساليب الدعاية وإن سميت علاقات عامة. وما العلاقات العامة في الديمقراطيات إلا امتداد للدعاية كما تمارسها الأنظمة الاستبدادية لكن في قفاز ناعم. فمحاولة تغيير نظرة الناس إلى الواقع دون تغيير ذلك الواقع دعاية سياسية مقنعة.

 تونس – يروي إدورد بيرنيز، أكبر منظري الدعاية في مطلع القرن الماضي في الولايات المتحدة، أن جرحى الجنود الأميركيين في الحرب الأولى كانوا يكثرون من التذمر من خدمات المستشفيات في أوروبا، فقررت القيادة العسكرية استخدام تسمية “مراكز الإخلاء” بدل المستشفيات فقل التذمر حتى هدأت الأنفس.

والأمثلة كثيرة على وقع الكلام في أنفس الناس غير أن المثال الذي أورده بيرنيز يظهر أن استبدال كلمة بأخرى غيّر سلوك جمع من الناس يخوضون حربا وكان تغيير الاسم سببا في الرضا بالإسعافات الأولية العاجلة دون تغيير الواقع قيد أنملة.

وما ذلك إلاّ دليل على قدرة أصحاب السلطة على التلاعب بالعقول أو التوجيه وعلى أنّ التوجيه، وهو تلطيف لكلمة الدعاية، معمول به على نطاق واسع حتى في الأنظمة الديمقراطية. ولا يخلو المحيط التونسي، الديمقراطي الناشئ، على مستوى الخطاب السياسي، من تلك الاستخدامات المقصودة حينا والعفوية أحيانا.

فبعد إعلان النهضة عن فصل نشاطها الدعوي عن العمل السياسي غيّر رئيسها راشد الغنوشي لباسه فأصبح من أصحاب ربطة العنق والبدل الزرقاء الأنيقة، ثمّ جاءت في أبريل 2018 الكلمة السحرية إذ نزع الغنوشي عن نفسه صفة الشيخ وأصبح يلقب بالأستاذ راشد الغنوشي.

ومن المرجح أن تكون مؤسسة العلاقات العامة البريطانية، أو قبلها الأميركية، التي تسدي خدماتها لحركة النهضة أدركت أن صفة الشيخ ذات المرجعية الدينية والشحنة الاجتماعية التقليدية لا تقنع بصدق النهضة في الخط السياسي المدني الجديد في حين أن كلمة الأستاذ توحي بالمدنية وربما بالحداثة أو بالعلمانية.

سياسيون يعتمدون دعاية القفاز الناعم التي تقوم على توظيف شهادات الناس البسطاء لتحقيق أهداف انتخابية

لقد أصبحت اليوم عبارة “أُخرج من سياقه” في تونس صورة تختزل في ذهن التونسيين أقوال النهضة، إذ كثيرا ما قال رئيسها كلاما يحدث جدلا فيخرج بعدها أحد قيادييها “لإعادة الكلام إلى سياقه”. ويذهب القول إلى أبعد من الجدل لنسمع في اليوم نفسه القول ونقيضه من عضوين من الحركة يقول أحدهما إن الغنوشي سيترشح للانتخابات الرئاسية في حين ينفي الآخر ذلك.

إن تقنية إخراج الكلام من سياقه وإطلاق التصريحات المتضاربة لا تنم عن خطاب ذي وجهين كما يُخيل إلى البعض، بل هي تقنية معروفة ومعتمدة في الديمقراطيات، كأحد أساليب التلاعب بوسائل الإعلام إذ يسارع الصحافيون بعد التضارب في القول أو غريبه إلى دعوة قياديي الحركة إلى البلاتوهات للاستفسار والتوضيح فيضمنون لأنفسهم حضورا دائما في الإعلام.

ومن مساوئ ذلك أن القوى السياسية التي تعمد إلى تلك الطرق تفرض أجندتها على الصحافيين وعلى المؤسسات الإعلامية ولا لوم على الصحافيين في ذلك، إذ لا يمكنهم أن يتجاهلوا التضارب في الأقوال وإن كان مقصودا ولا الأقوال التي تحدث جدلا حتى لا يُتهموا بالتقصير في أداء أدوارهم.

وليست النهضة وحدها التي تستخدم أساليب العلاقات العامة، أي الدعاية في واقع الأمر، بل القوى السياسية الأخرى كذلك. ومن تلك الأساليب أسلوب الوصم بكلمات تحيل أذهان الناس إلى أشخاص أو وقائع أو فترات زمنية أو أيديولوجيات أو غيرها لا يستحضرونها بخير وهو وصم يبلغ حد الشتيمة أحيانا.

ومن الوصم بالكلمات هناك المتطرف والتكفيري والإرهابي والإخوانجي… يسميها أهل الاختصاص “الكلمات المفخخة” تخاطب في الناس عواطفهم وتسكت فيهم عقولهم لتأليبهم على الخصوم. ومقابل الوصم هناك “الكلماتِ الفاضلة” مثل التقدم والتطور والحرية…تهدف إلى تغيير عقول الناس ونظرتهم إلى واقعهم دون أدنى جهد من السياسيين لتغيير الواقع. هي دعاية القفاز الناعم التي تحاكي الإعلانات التجارية لبيع البضائع التي لا تباع دائما لجودتها.

وينم لجوء السياسيين إلى الشعارات في النظام الديمقراطي عن عجزهم عن الخوض في المشكلات التي يعرضونها في شكل رموز وشعارات. فالحديث مثلا عن الإصلاحات مطلقا أمر يسير أما مناقشتها وتفكيكها وبيان آجالها ووقعها عمليا على حياة الناس فأمر آخر. ولذلك السبب نرى أن معظم السياسيين القياديين يتمسكون بالحضور منفردين في البلاتوهات خشية أن يجادلهم من قد يكون عارفا بالأمر.

ورغم الانتقال في أساليب الدعاية في تونس فإن بعض الأساليب القديمة تطفو أحيانا وآخرها نشر قيادية في حزب “تحيا تونس” تدوينة تتملق فيها لرئيس الحكومة يوسف الشاهد بكلام خلف سخرية واشمئزازا نادرين على الشبكات الاجتماعية. لقد جعلت المادحة مديحة بالحاج لتدوينتها عنوان “اليوم نزفّك يا عريس” بمناسبة انعقاد مؤتمر الحزب في نهاية أبريل.

Thumbnail

ومازالت هناك بعض بقايا الأساليب القديمة على المستوى الرسمي مثل صمت مؤسسات الدولة ومصالح الحكومة عما يقتضي توضيحا للرأي العام. ومازال التونسيون يذكرون صمت الحكومة المطبق عن إقالة وزير الداخلية السابق لطفي براهم في يونيو 2018 والصمت من التقنيات التي كان يحبذها غوبلز وزير الدعاية الألماني لتوجيه الرأي العام. ومن مظاهر دعاية القفاز الناعم في تونس أن شاهد التونسيون مرارا رئيس حركة النهضة يستقبل المشاهير ويهنئهم ويهنؤونه وتوظيف المشاهير في السياسة كتوظيفهم في الإعلانات التجارية عند تكليف أحدهم بالإعلان لبضاعة ما.

وتقوم دعاية القفاز الناعم على الظهور بمظهر بسطاء الناس بارتياد المطاعم الشعبية والمقاهي ولعب الورق معهم كما فعل رئيس الحكومة السابق مهدي جمعة قبل أسابيع والتردد على مواكب العزاء وغيره وحضور المباريات الرياضية.

ومنها أيضا توظيف شهادات الناس البسطاء لتحقيق أهداف سياسية كما كان يفعل العربي نصرة الذي استخدم سابقا قناته التلفزيونية “حنبعل” لعرض شهادات لا تنتهي عن شخصه طمعا في الفوز بالانتخابات الرئاسية لعام 2014 ونبيل القروي صاحب قناة “نسمة”. لقد جعل القروي الراغب في الفوز في الانتخابات من قناته عكاظية مدح يطريه فيها بسطاء القوم يوميا على المساعدات التي يجمعها عبر قناته ثم يوزعها عليهم.

إن الدعاية مستويات والكلمة أحدها وهي طريقة مستخدمة في أعرق الديمقراطيات التي يستخدم فيها السياسيون عبارة المجتمع المدني بدل الشعب مثلا ونجد هذا المعنى حتى في الاستخدامات التجارية إذ غير المعلنون عبارة المراقبة بالفيديو بعبارة الحماية بالفيديو. لقد أخذت السياسة عن التجارة فأصبحت البرامج السياسية بضاعة.

وكما استخدم العسكر قبل مئة عام تسمية مراكز الإخلاء بدل المستشفى فإن كثيرا من الأنظمة اليوم تستخدم كلمة الحوكمة بدل الديمقراطية. فالديمقراطية قيم وعبر والحوكمة تصرف وتدبير حر.

18