بلاد النيلين تنتظر توافق أبنائها لتنهض

كانت هناك قبل أيام بوادر مشجعة توحي بإمكانية التوصل إلى حل مقبول يقود السودان إلى بر الأمان. إذ توافق ممثلو قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان على جملة نقاط أهمها ضرورة وجود فترة انتقالية معقولة تمكّن السودانيين من استعادة قواهم، وتنظيم صفوفهم، والتحرر قدر الإمكان من الإرث الثقيل الذي تشكل عبر ثلاثة عقود من حكم فاسد، بدّد طاقات السودان، وإمكانيات شعبه في مشاريع خاصة، ومعارك عبثية كانت نتائجها بالغة السلبية على البلاد وأهلها.
كما تم التوافق على أن يكون المجلس السيادي -الذي سيشرف على تشكيل الحكومة والبرلمان والإعداد لدستور يكون أساساً لانتخابات حرة- مختلطاً، يضم العسكريين والمدنيين. وهذه مسألة في غاية الأهمية والضرورة في الظروف الحالية. فوجود العسكريين ضروري للمحافظة على الأمن والاستقرار المجتمعي، وسلامة الدولة. كما أن وجود المدنيين هو الآخر ضرورة لا غنى عنها، تطمئن المجتمع السوداني، من جهة التأكيد بأنه في طريقه نحو نظام مدني ديمقراطي، تكون مؤسسة الجيش فيه المؤسسة الحامية للدولة والمجتمع، وفق قواعد وضوابط دستورية تفسح المجال أمام المساءلة والمحاسبة، وتقطع الطريق أمام التغوّل والهيمنة والتحكّم.
والجدير بالذكر في هذا السياق هو أن قوى الحرية والتغيير تمثل ملايين السودانيين المطالبين بضرورة إجراء تغيير حقيقي في البلاد، يفتح الآفاق أمام الأجيال السودانية المقبلة بعيداً عن الفساد والاستبداد.
ولكن الذي حصل قبل يومين شكك في إمكانية الوصول السريع إلى توافق منتظر مطلوب، وقد تمثل ذلك في التصريحات المتعارضة التي أدلى بها الناطقون باسم كل طرف، الأمر الذي حدّ من نبرة التفاؤل سواء لدى السودانيين أنفسهم، أو لدى كل من يريد الخير للسودان وأهله.
إن اعتماد الحوار وسيلة لحل الخلافات وتقريب وجهات النظر وتدوير الزوايا، يبقى هو الحل الأمثل، والطريق الأسهل والأقصر لحل الخلافات، ويُبعد السودان عن شرور كارثية، عانينا من تبعاتها في سوريا على مدى ثمانية أعوام، وما زلنا نعاني.
الأمور حتى هذه اللحظة تسير بصورة مقبولة. فالجيش السوداني يعلن التزامه بمصلحة الشعب، وقطع الطريق على الأجهزة الأمنية القمعية التي كانت خاضعة لتعليمات الرئيس المخلوع. ومنعها من تهديد المتظاهرين والمعتصمين أو الاعتداء عليهم. كما أن القوى السياسية السودانية على اختلاف توجهاتها الفكرية، وطبيعتها التمثيلية، قد أظهرت نضجا كافيا معهودا، وتمكنت من تحقيق توافقات الحد الأدنى فيما بينها، ومارست واجباتها بمختلف الأشكال، خاصة من ناحية التواصل مع المتظاهرين والمعتصمين، ومشاركتهم في فعالياتهم. هذا بالإضافة إلى حرصها على الحوار مع المؤسسة العسكرية، وإصرارها على توفير الأرضية لنجاحه، لأن هذا الحوار هو السبيل الوحيد لإنقاذ السودان والسودانيين من مخاطر مواجهات لا تحمد عقباها، ستفتح الطريق، إذا حدثت لا سمح الله، أمام تدخلات إقليمية ودولية لن تأخذ مصالح السودانيين بعين الاعتبار.
ولنا في سوريا تجربة مريرة مع هذه المصيبة، إذ تحول الجيش عندنا إلى أداة بيد النظام منذ اليوم الأول، ومارس القتل بحق السوريين، مستخدماً في ذلك كل أنواع الأسلحة، بما في ذاك الطيران والصواريخ والأسلحة الكيماوية، وعلى مدى سنوات، وبأسلوب منهجي منظم، استهدف تدمير المدن والبلدات السورية، وتهجير وتشريد سكانها، وكانت النتيجة تحول البلاد إلى ساحة مفتوحة أمام القوى الدولية والإقليمية الطامعة.
أما من جهة المعارضة السورية، فلم تتمكن الأحزاب المدجنة من اتخاذ الموقف المطلوب لنصرة ثورة الشعب. كما لم تتمكن الأحزاب الأخرى التي عرفت بمواقفها الصلبة في معارضة النظام من أداء الدور المنتظر، وذلك لأسباب عدة من أهمها عدم قدرتها على التحرك بحرية في مناخات استبدادية شمولية قاسية فرضها النظام على السوريين على مدى عقود عبر الأجهزة القمعية المتعددة الأسماء والوظائف.
أما بالنسبة إلى السودان فالوضعية كانت مغايرة تماماً على صعيد الجيش والأحزاب. يضاف إلى ذلك وجود مجتمع مدني فاعل في السودان، يحرص على مصلحة السودانيين بكل شرائحهم وتوجهاتهم ويدافع بعناد عن مستقبل الشباب السوداني. وقد لاحظنا دور هذا المجتمع ضمن تجمع المهنيين السودانيين الذي يضم ممثلين عن مختلف النقابات والمنظمات الشعبية. أما سورياً، فقد تمكن النظام منذ مرحلة الثمانينات من تقزيم دور النقابات المهنية، بل حوّلها إلى أداة تابعة في جهازه الأمني القمعي الشمولي.
الأمور في السودان حتى الآن لم تصل إلى الوضعية الحرجة رغم التصريحات المتعارضة، والاتهامات الصريحة والمبطنة. هذا ما نسمعه من إخوة سودانيين في الخرطوم نثق بهم. ولكن ما نأمله هو أن تبذل جهود مكثفة ومركزة وعاجلة، بغية إيجاد الحلول للمسائل العالقة، وهي قابلة للحل إذا ما توفرت الإرادة الأكيدة والنوايا الصادقة.
كلنا أمل أن يتم التوافق الشامل بين السودانيين، من عسكريين ومدنيين، علمانيين وليبراليين ومتدينين، مع ضرورة حرص الجميع على حيادية الدولة التي عليها ضمان حقوق الجميع، واحترام خصوصياتهم، والتعامل معهم بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، مع احترام العقائد والتوجهات الفكرية للجميع.
السودان يمتلك إمكانيات كافية لنهوض أكيد، ويمتلك إمكانيات مائية هائلة، ولديه مساحات واسعة من الأراضي الزراعية القادرة على توفير الأمن الاستراتيجي للسودان والدول المجاورة. وإلى جانب ذلك يمتلك البلد رأسمالاً لا يُضاهى في ميدان الموارد البشرية التي تجمع بين مختلف الاختصاصات. كما أن العمال السودانيين الموجودين في دول الخليج وغيرها من الدول، يتمتعون بسمعة طيبة للغاية، ويعملون في مختلف الاختصاصات بكفاءة وحرفية في مختلف الميادين، وهؤلاء في مقدورهم النهوض ببلدهم بالتعاون مع شعبهم في الوطن.
ما يحتاجه السودان قبل كل شيء إدارة وطنية، حريصة على شعبها ومستقبله، تزيل العقبات أمام السودانيين ليسخّروا كل خبراتهم وطاقاتهم في خدمة مجتمعهم وبلدهم، والتوجه بثقة نحو مستقبل واعد، يضمن الحياة الحرة الكريمة العادلة للأجيال السودانية المقبلة. هذا مع الحرص على بناء أفضل العلاقات مع الجوار، ومع المجتمع الدولي، على أساس المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل، والحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميين.
نأمل كل التوفيق والنجاح للشعب السوداني العزيز، ونتمنى أن يكون فلاحه عامل أمل وثقة للسوريين أيضا ليتمكنوا، بدورهم، من حل أزمتهم عبر حوار وطني مسؤول يتجاوز عقليات التخوين والتهديد والتشفّي والانتقام، لاسيما من جانب النظام الذي استعان بكل شذاذ الآفاق من أجل الاحتفاظ بسلطة دمرت البلد وشردت الشعب وسلمت مصير الأجيال السورية المقبلة إلى المجهول الكارثي.